كلنا خسرنا أفغانستان || عقدان من الأخطاء وسوء التقدير والفشل الجماعي

مايكل ماكينلي

مع سقوط أفغانستان في أيدي “طالبان”، انهال من دون هوادة سيل الاتهامات والإدانة الصريحة لسحب إدارة بايدن القوات الأميركية في أفغانستان. ولقد عكس مستشار الأمن القومي السابق الجنرال إتش آر ماكماستر مشاعر كثيرين حينما أعلن أن أفغانستان “مشكلة إنسانية على حدود العصر الحديث بين البربرية والحضارة”، والولايات المتحدة تفتقر إلى الإرادة “في مواصلة الجهود لمصلحة البشرية جمعاء”.

يمثّل ما يحدث مأساة مروعة، لكن لا يمكن إلقاء اللوم على جهة واحدة. ولقد شكّل خطأً ذلك الجدول الزمني القصير الذي وضعته إدارة للانسحاب، وقد ارتبط بالذكرى العشرين لحوادث 11 سبتمبر (أيلول)، وجاء أيضاً في منتصف موسم القتال. في المقابل، تأتّى الوضع على الأرض نتيجة عقدين من الحسابات الخاطئة والسياسات الفاشلة التي انتهجتها ثلاث إدارات أميركية سابقة، إضافةً إلى فشل قادة أفغانستان في الحكم لمصلحة شعبهم. يضاف إلى ذلك أن عديداً من النقاد الذين تحدثوا علانية اليوم كانوا من مهندسي تلك السياسات.

واستطراداً، تقوَّض الأسئلة الأوسع نطاقاً حول الأسباب التي أدّت إلى بلوغ أفغانستان هذا المنعطف، محاولات تبرير “الحرب على الإرهاب” بالطريقة التي خاضتها أميركا على مدى عقدين من الزمن. خلال أكثر من ثلاث سنوات قضيتها في كابول، بين 2013 و2016 (بما في ذلك عملي سفيراً للولايات المتحدة من 2014 إلى 2016)، توضّح لي مدى خطورة التحديات التي تواجه استراتيجية الولايات المتحدة. على الرغم من أننا نجحنا إلى حد كبير في القضاء على تنظيم “القاعدة” في تلك البلاد والتقليل من خطر الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة، إلا أننا فشلنا في نهجنا بشأن مكافحة التمرد، وإيجاد سياسة أفغانية و”بناء الدولة”. لقد قلّلنا من قدرة “طالبان” على الصمود، وأخطأنا في قراءة الحقائق الجيوسياسية في تلك المنطقة.

لقد حان الوقت لمواجهة الحقائق. إذ إن قرار تأجيل انسحاب القوات الأميركية لمدة سنة أو سنتين لن يُحدث أي فارق في العواقب المحزنة التي لا تطاق على أرض أفغانستان. لقد توجّب على الولايات المتحدة أن تلتزم بأفغانستان إلى أجل غير مسمى، بتكلفة تصل إلى عشرات المليارات سنوياً، مع أمل ضئيل في البناء على مكاسب هشة داخل دولة ذات حكم ضعيف، وفي ظل تآكل ظروف ساحة المعركة، ومع اليقين بأننا سنفقد أرواح عديد من الأميركيين حينما تستهدف “طالبان” القوات الأميركية والدبلوماسيين من جديد.

ومع بدء لعبة إلقاء اللوم وتمارين الدروس المستفادة، حان الوقت أيضاً لمنتقدي الانسحاب أن يتصدوا بشكل صريح للأخطاء في التقدير وأوجه القصور في التدخل بأفغانستان، وقد دفعتنا كلها إلى هذا الوضع. وكذلك يجدر بهم إدراك أن المسؤولية عن الإخفاقات يجب تقاسمها على نطاق واسع.

الانهيار العسكري

في ضوء استيلاء “طالبان” السريع على مدينة أفغانية بعد أخرى في الأيام الأخيرة، ربما يتجسّد الخطأ الأميركي الأبرز في المبالغة المستمرة بشأن تقدير قدرات قوات “الدفاع الوطني الأفغاني” و”القوى الأمنية”. حتى من دون دعم عسكري أميركي تكتيكي، يفترض أن تكون “الدفاع الوطني الأفغاني” و”القوى الأمنية” في وضع يسمح لها بالدفاع عن المدن الكبرى والمنشآت العسكرية المهمة. ووفق ما أشار إليه عديد من المراقبين، كانت قوات الدفاع الأفغانية على الورق أكبر وأفضل تجهيزاً وتنظيماً من “طالبان”، وكانت “القوات الخاصة الأفغانية” تقارن مع الأفضل بين نظيراتها في المنطقة. في أواخر مارس (آذار) 2021، ورد أنّ تقارير الاستخبارات الأميركية لمسؤولي إدارة بايدن حذّرت من إمكانية سيطرة “طالبان” على معظم البلاد في غضون عامين إلى ثلاثة أعوام، وليس في غضون أسابيع قليلة.

واستطراداً، شكّل هذا التقدير المبالغ فيه لقدرات قوات “الدفاع الوطني الأفغاني” و”القوى الأمنية” عنصراً ثابتاً بعد نهاية “الطفرة” في القوات الأميركية بين عامي 2009 و2011. ولقد أكدت العروض التقديمية نصف السنوية التي قدمتها وزارة الدفاع الأميركية بانتظام إلى الكونغرس، تزايد الاحتراف والقدرة القتالية للجيش الأفغاني. وفي ذلك الصدد، جاء “تقرير التقدم المُحْرَزْ نحو الأمن والاستقرار في أفغانستان” الصادر في ديسمبر (كانون الأول) 2012 نموذجياً، إذ سلّط الضوء على أن القوات الأفغانية نفّذت 80 في المئة من العمليات، وقد نجحت في تجنيد عدد كافٍ من الأفغان سعياً إلى تلبية الحد الأقصى المسموح به الذي يصل إلى 352 ألف جندي وشرطي. وذهب تقرير مماثل صدر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013 أبعد من ذلك، إذ أشار إلى أنّ “قوى الأمن الأفغانية تعمل الآن بنجاح على توفير الأمن لشعبها، وتخوض معاركها الخاصة”، ويمكن أن تحقق المكاسب “التي حققها تحالفٌ من 50 دولة لديه أفضل القوات المدربة والمجهزة في العالم.”

مع حلول 2014، ورد أن القوات الأفغانية “قادت 99 في المئة من العمليات التقليدية و99 في المئة من العمليات الخاصة”، وظلّت “عند المستوى الكامل المسموح به الذي يبلغ 352 ألف فرد”. وحتى مع تدهور الوضع الميداني، أورد تقرير صدر في 2017 أن قوات “الدفاع الوطني الأفغاني” و”القوى الأمنية”، قد باتت “قادرة بشكل عام على حماية المراكز السكانية الرئيسية [إضافة إلى] الرد على حركة “طالبان” وهجماتها.”

وفي منحىً مغاير، لم تبدأ التقارير في التعبير عن حقيقة أكثر إثارة للقلق، إلا في السنوات القليلة الماضية. ففي 2017 ومرّة أخرى في 2019، ظهرت تقارير تفيد بإزالة عشرات الآلاف من الجنود “الأشباح” [المسجّلة أسماؤهم من دون أن يكون لهم وجود فعلاً] من القوائم، ما يشير إلى أن عدد القوات الأفغانية لم يقترب أبداً من 330 ألف جندي متاحين في محاربة “طالبان”، وواضح أن ذلك بعيد تماماً عن الـ352 ألف جندي [ويشكّل ذلك الحد الأقصى المسموح به كحجم للقوات الأفغانية]. كذلك ورد في تقرير رفعته وزارة الدفاع الأميركية في ديسمبر 2020 إلى الكونغرس، أن “حوالى 298 ألف فرد من القوات [الأفغانية] كانوا وحدهم مؤهلين كي يحصلوا على رواتب”، ملمحاً إلى المشكلة المتكررة مع الجنود “الأشباح” وعمليات الفرار من الخدمة.

وعلى نحوٍ مُشابِه، “سلّط المفتش العام المختص بإعادة إعمار أفغانستان” اختصاراً “سيغار” SIGAR الضوء بانتظام على مشاكل تتبع المعدات والرواتب. لقد أدى الهدر والاحتيال وسوء إدارة الموارد التي يفترض أنها عملت على تطوير الجيش الأفغاني، إلى تقويض متزايد في القدرة القتالية لدى قوات “الدفاع الوطني الأفغاني”. ويصل حجم الهدر والاحتيال إلى مليارات الدولارات مع الفساد الذي غالباً ما يشارك فيه كبار المسؤولين في الحكومة الأفغانية. ولقد نجح مكتب “سيغار” في كشف كثير من ذلك الفساد، لكن توجّب بذل مزيد من الجهد في إيقافه.

الجمود المتآكل

في ساحة المعركة من عام 2013 فصاعداً، بدت “طالبان” أنّها تتقدم عاماً بعد عام، فيما اصطُلِح عليه في لغة واشنطن بـ”الجمود المتآكل”، حتى مع وفاة مؤسس “طالبان” الملا عمر في 2013، واغتيال خليفته في 2016، والقصف الذي أطلق التحالف بين عامي 2018 و2019 الذي اعتبر الأعنف في تلك الحرب.

وبالاسترجاع، لقد زُرعت بذور ذلك الجمود المتآكل في وقت مبكر، حينما أدى فشل الاستثمار في الشرطة والجيش الأفغاني أثناء السنوات الأولى التي تلت 2001، إلى ضياع وقت ثمين يفترض أنه مخصص لبناء قوة قتالية مقتدرة، حينما كانت “طالبان” في موقف دفاعي. وعلى مدار عقدين من الزمن أيضاً، لم تعطَ الأولوية لبناء قوة جوية. إذ لم يبدأ تدريب جيل جديد من الطيارين الأفغان إلا في 2009، وحدث ذلك بشكل أبطأ من اللازم بسبب قرار تحويل الأسطول الجوي الأفغاني من طائرات روسية إلى مروحيات “بلاك هوك” الأميركية. وبمجرد أن بدأت القوات الجوية الأفغانية أخيراً تكتسب فاعلية نسبية، جرى تقويض كل نجاح حققته بسبب القرار الذي اتُخذ هذا العام بسحب آلاف المتعاقدين الذين قدموا الصيانة والدعم للعمليات العسكرية، بالتساوق مع بدء المستشارين الأميركيين بالمغادرة في 2019.

في الواقع، ثبت أن عدم نقل خدمات الـ18 متعاقداً الذين عملوا مع الجيش الأفغاني، أو تقديم ضمانات مالية لتغطية تكاليفهم، شكّل أمراً وخيم العواقب على الحكومة في كابول، على الرغم من أنه ليس واضحاً حالياً إذا كان لقوات “الدفاع الوطني الأفغاني” و”القوى الأمنية” أن تقاتل حتى مع وجود ذلك الدعم. في المقابل، ربما كان لتلك الخدمات أن تحافظ على التدفق اللوجستي إلى قوات “الدفاع الوطني الأفغاني” و”القوى الأمنية” في الميدان، والمحافظة على القوات الجوية الأفغانية، على الرغم من انسحاب القوات الأميركية. وبدلاً من ذلك، ستصبح مغادرة الولايات المتحدة ليلاً في يوليو (تموز) قاعدة “باغرام” الجوية التي تعتبر مرتكزاً لوجستياً رئيساً، رمزاً دائماً لفشلنا العسكري في أفغانستان. (وَلَّدَ الفشل في الحفاظ على تلك القدرة اللوجستية نتيجة أخرى تتمثل في إعاقة جهود إجلاء موظفي السفارة وعشرات الآلاف من الأفغان، كي يُضافوا إلى المترجمين الفوريين الذين عملوا مع الجيش الأميركي والبعثات الدبلوماسية وبرامج المساعدة.)

في غضون ذلك، لم تظهر استراتيجية مكافحة التمرد التي تبنتها الولايات المتحدة أبداً القدرة على تحقيق مكاسب مستدامة. وبحسب ما نقل الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة مايك مولين، إلى أحد محاوريه هذا الأسبوع، فإنه عارض تمديد زيادة القوات الأميركية إلى ما بعد 2011 لأنه، وفق كلماته، “إذا لم نحقق تقدماً كبيراً أو أظهرنا تقدماً كبيراً على مدار 18 شهراً أو نحو ذلك، فإن استراتيجيتنا خاطئة ونحن بحاجة حقاً إلى إعادة التقويم”. ومع ذلك، لم تجر عملية إعادة التقويم مطلقاً، إلى أن جاء قرار الانسحاب.

وفي سياق متصل، وعلى مر السنين، قضى الجنود الأفغان أشهراً من دون أجر أو إمدادات لازمة في الدفاع عن أنفسهم. وفي الآونة الأخيرة، لا يبدو أن عواصم الولايات قد عُزّزت بشكل كافٍ، على الرغم أنه قد توضّح قبل 18 شهراً أن الولايات المتحدة تعتزم سحب قواتها في غضون سنة من “اتفاق الدوحة” الذي أبرمته إدارة ترمب مع “طالبان” في فبراير (شباط) 2020. ومع تقدّم “طالبان” في الأسابيع الماضية بقوة، تعرض الجنود الأفغان للخذلان من قبل قادتهم وزعمائهم السياسيين الذين فشلوا على مدى 20 عاماً فشلاً ذريعاً في كسب الولاء الوطني. وكذلك برز بشكل لافت عجز حكومة أفغانستان عن حشد الأمة مع انهيار دفاعاتها. ويساعد هذا السياق في تفسير سبب إحجام قوات “الدفاع الوطني الأفغاني” و”القوى الأمنية” عن القتال في الأيام الأخيرة.

في منحى متصل، ثمة سوء تقدير آخر يتعلق بضعف أمراء الحرب الإقليميين. منذ 2001، سرى افتراض واسع بأن أمراء الحرب هؤلاء يمتلكون آلاف الأتباع المسلحين الذين يمكن حشدهم بسرعة ضد “طالبان”. لقد اعتقدت الولايات المتحدة والحكومة الوطنية الأفغانية أن ذلك الافتراض يجسّد الواقع. ونتيجة ذلك الافتراض، عملت على إيواء قادة محليين متوحشين في كثير من الأحيان. ولقد كشف سقوط مُدُنْ “شبرغان”، معقل نائب الرئيس السابق (ومنتهك حقوق الإنسان) عبد الرشيد دوستم، و”هِرات” التي وقعت في وقت سابق تحت سيطرة زعيم المجاهدين السابق إسماعيل خان، و”مزار الشريف” التي أدارها سابقاً عطا محمد نور، [كشف] أن ذلك الافتراض انطوى على خلل شديد. وقد نشد الرئيس الأفغاني أشرف غني المساعدة من أمراء الحرب أولئك، لكنه لم يكتشف سوى أنهم لا يملكون أي قوات يحشدونها. ويشكّل ذلك وصفاً مؤسفاً عن حالة الحكومة الوطنية والجيش الأفغاني، وقراءة الولايات المتحدة للواقع السياسي الأفغاني المجزأ.

في مشهدية مماثلة، بالغت الولايات المتحدة في تقدير قدرتها على معالجة عامل آخر قوّض بشكل أساسي المجهود الحربي، ويتمثّل في ملاذات “طالبان” في باكستان. وفي هذا الصدد، سعى قادة الولايات المتحدة على مدى سنوات إلى الحصول على دعم إسلام آباد [عاصمة باكستان] بهدف إيجاد حل سلمي للحرب في أفغانستان. لكنهم فشلوا. ويرجع ذلك إلى أن إسلام آباد أولت اهتماماً أكبر إلى الإبقاء على خياراتها مفتوحة بشأن أفغانستان. وحتى بعد العثور على أسامة بن لادن، زعيم تنظيم “القاعدة” المُدبر لهجمات 11 سبتمبر، مختبئاً في “أبوت آباد”، احتفظت الولايات المتحدة بعلاقات وثيقة مع باكستان بالنظر إلى الأهمية الإقليمية الواسعة لتلك البلاد.

وبصورة عامة، من الصعب للغاية هزيمة تمرد يتمتع بملاذ عبر الحدود. لقد عملت قيادة “طالبان” على التجنيد وجمع الأموال والتخطيط للهجمات، من دون عوائق انطلاقاً من “كويتا” و”بيشاور”. وفيما طلبت الحكومة الأفغانية مراراً مساعدة باكستان في إغلاق قواعد “طالبان”، اعترف وزير الداخلية الباكستاني في يوليو 2021 بأن عائلات “طالبان” تعيش في ضواحي “إسلام آباد”.

قراءة خاطئة للواقع الأفغاني

لماذا لم تبرز حكومة أفغانية فاعلة على مدى 20 عاماً؟ لقد حاولت الولايات المتحدة بالتأكيد المساعدة في إنتاج حكومة كتلك، واستمرت جهودنا في فرض نموذج ديمقراطي غربي على أفغانستان طيلة عقدين من الزمن، بداية في مؤتمر بون 2001، ثم عبر كتابة الدستور الوطني.

وتذكيراً، لقد اشتكى الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي في أحيان كثيرة من غطرسة التأثير السياسي الأميركي. إذ بدا ذلك “التدخل” دائماً كأنه يُبقي السياسة الأفغانية على المسار الصحيح، لكنه انطوي على تداعيات غير متوقعة. ومثلاً، حينما سعى ريتشارد هولبروك، الممثل الخاص للولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان، إلى التأثير في انتخابات 2009، لم ينجح في وقف انتصار كرزاي، بل حوّل الرئيس الأفغاني عدواً. وفي 2014، حينما توسّط وزير الخارجية الأميركي جون كيري في تشكيل حكومة وحدة وطنية مع ظهور خطر نشوب صراع أهلي، جاءت النتيجة توافقٌ سياسي مضطرب على الدوام بين الرئيس غني ومنافسه [وزير الخارجية الأفغاني السابق] عبدالله عبدالله. وفي انتخابات 2019 الرئاسية اللاحقة، أدلى أقل من مليوني أفغاني بأصواتهم، بانخفاض عن ثمانية ملايين قبل مجرد خمس سنوات. وبالكاد، استطاعت نتيجة الانتخابات المتنازع عليها أن توحي بأن ديمقراطية أفغانستان تترسخ، في وقت تزايد فيه تهديد “طالبان”.

في صورة مماثلة، حينما زار قادة حكومة الوحدة واشنطن بغية لقاء الرئيس جو بايدن في يونيو (حزيران) 2021، لم توجد الوحدة إلا اسمياً، فيما عُزِلَ القصر الرئاسي لأشرف غني، بشكل متزايد. ومع ذلك، استمر كثيرون في واشنطن في افتراض ما يشبه وجود هدف مشترك في ما يتعلق بالتهديد المُحدق الذي تشكّله “طالبان”.

في ذلك الصدد، لم يحدث أي تماسك في أوساط القيادة السياسية الوطنية الأفغانية بشكل كامل، بشأن أفضل السبل في محاربة “طالبان”. في المقابل، حدثت توترات بين كابول والسماسرة الإقليميين للنفوذ، وبين البشتون وأقليات الطاجيك والهزارة والأوزبك. ولقد أدار كرزاي وغني التمثيل العرقي من خلال نظام الغنائم بدلاً من الترويج لرؤية وطنية مشتركة، فيما أسفرت جهود الولايات المتحدة في إيجاد، بل حتى اختيار، قادة الوزارات، عن تقويض استقلالية الحكومة الأفغانية وشرعيتها.

وفي المقابل، أظهرت “طالبان” قدرة على الصمود ليس كمجرد منظمة عسكرية وإرهابية فحسب، بل كحركة سياسية أيضاً. بعد 2001، ظلّت “طالبان” تتمتع بالدعم الشعبي في أجزاء من أفغانستان واحتفظت بالقدرة على حشد عشرات الآلاف من الأجيال الجديدة من الشباب الأفغان الموالين لها. وحتى أثناء “طفرة” القوات الأميركية بين عامي 2009 و2011، أثبتت “طالبان” أنها قادرة على التطور. ومثّلت جهود الحكومة الأفغانية في المصالحة مع “طالبان” منذ 2010، قبولاً ضمنياً لبروزهم السياسي والعسكري داخل أفغانستان. ويعبّر عن ذلك الواقع أيضاً، قرار الولايات المتحدة التفاوض رسمياً مع “طالبان” في 2018، وترحيب الحكومات الأجنبية بمبعوثي “طالبان” بعد “اتفاق الدوحة” في فبراير 2020.

لقد أخطأنا في فهم “طالبان” حينما حاربناهم، وكذلك أخطأنا في فهم تعهدهم الأخير بالتفاوض على السلام، بينما كانوا يتصارعون في الدوحة بعيداً من الأعين مع حكومة غني، بعد التوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن الجدول الزمني للانسحاب. لم تكن لديهم أي نية للتوصل إلى تسوية. (تبدو فكرة أن “طالبان” قد تغيرت، أكثر سذاجة الآن بالنظر إلى الصور المقلقة التي ظهرت مع استيلائها حاضراً على السلطة). ومع ذلك، عبّرت الولايات المتحدة عن وجود تلك النية لدى “طالبان” من بعض النواحي. إذ تمثّل الهدف النهائي للمفاوضين الأميركيين في تهيئة الظروف المناسبة لانسحاب أميركي منظم. ولقد عرفت “طالبان” ذلك باستمرار.

الآن، لا تعني التهديدات بحجب الاعتراف الدولي عن “طالبان” الشيء الكثير بعد استيلائهم على كابول بالقوة. ولا يشعر قادة “طالبان” بالقلق بشأن اعتراف الولايات المتحدة بهم كحكومة أم لا، لأنّ أطرافاً دولية أخرى من المحتمل أن تعترف بهم، بغض النظر عمّا تقرره واشنطن.

في تطوّر متصل، تبرز سلسلة أخرى من سوء التقدير والأخطاء المتعلقة بالطموحات الأميركية حينما يتعلق الأمر بـ”بناء الأمم”. بالنسبة إلى المسؤولين الأميركيين، بدا كثيراً مما فُعِلَ شأناً ناجحاً. عملت الولايات المتحدة على دعم حكومة تمثيلية وتقوية الهيئة التشريعية وتوفير درجة من الأمن وتقديم الخدمات الاجتماعية. ولقد غيرت جهودُها التعليم الأفغاني، مع النمو الهائل في عدد الفتيات في المدارس والنساء في الجامعات وأماكن العمل. كذلك قُنِّنَتْ الحقوق المدنية وظهرت صحافة حرة ونظام قضائي، وعاد ملايين اللاجئين إلى أفغانستان في سنوات ما بعد 2001.

ومع ذلك، حتى مع هذه النجاحات، فإننا بالغنا في الترويج للمكاسب، إذ فعلنا أقل مما كان ممكناً بشأن الفساد، وعملنا بشكل مفتوح مع شخصيات حكومية وعسكرية رفيعة اعتبرها الأفغان العاديون مسؤولة عن الكسب غير المشروع والانتهاكات السياسية والحقوقية. من ناحية أخرى، جاء برنامجنا في مكافحة المخدرات فاشلاً للغاية. فقد استمر إنتاج الأفيون في الزيادة خلال معظم العقد الماضي. وقد قَدَّرَ مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، حدوث زيادة بـ37 في المئة في المساحات المزروعة [بالمخدرات] في 2020. ولقد جرى التعبير سنة بعد أخرى في مؤتمرات المانحين [لأفغانستان] عن الأمل في أن يُمكّن النمو الاقتصادي لأفغانستان حكومتها من تغطية نفقاتها الخاصة، على الرغم من توضّح أنّ ذلك ليس ممكناً في المستقبل المنظور. في غضون ذلك، تقهقرت المشاريع الضخمة. ومثلاً، استغرق الأمر 15 عاماً لتركيب توربين جديد على “سد كاجاكي” الذي يعتبر رمزاً للسخاء الأميركي تجاه أفغانستان في الخمسينيات من القرن العشرين.

من خسر أفغانستان؟

في فبراير (شباط) 2021، ظهرت توصيات “مجموعة دراسة أفغانستان” المكلّفة بعملها من الكونغرس، بشأن الطريق إلى المستقبل. وسلطت المجموعة الضوء على أهمية استمرار الدعم لأفغانستان دولةً وشعباً. كذلك ألقت الضوء على أهمية استمرار الدبلوماسية في دعم عملية السلام والعمل مع الحلفاء الإقليميين، إضافة إلى تمديد وجود القوات الأميركية بغية السماح بالوصول إلى ختام في مفاوضات السلام بالدوحة. ولقد سَرَتْ كل تلك السياسات، باستثناء واحدة، قبل صدور التقرير وبعده، لكنها لم تجدِ نفعاً في وقف الانهيار الذي نشهده الآن. بالتالي، لا ينبغي أن يعتمد بقاء الدولة الأفغانية على مجرد استمرار وجود القوات الأميركية.

ثمة حجة مُغرية واحدة طرحها منتقدو الانسحاب، وتتمثل في أن أفغانستان التي تحكمها “طالبان” ستصبح مرة أخرى ملاذ الجماعات الإرهابية التي تهدد أمن الولايات المتحدة. وتعتبر تلك الحجة اعترافاً غير مباشر بأننا نجحنا في تقليل التهديد الآتي من أفغانستان إلى مستويات أدنى [مما كانه قبل دخول أميركا إليها]، بل أن تقليل التهديد يشكّل الأساس المنطقي الأصلي في تدخل الولايات المتحدة. ومع ذلك، جاءت التضحية كبيرة، إذ بلغت أكثر من تريليون دولار، مع مقتل 2400 من أفراد الخدمة الأميركية (وآلاف المتعاقدين)، وأكثر من 20 ألف جريح أميركي.

في ذلك الصدد، ربما تتطور عودة ظهور تهديد إرهابي بسرعة أكبر في ظل حكومة “طالبان” المستقبلية، مما كانت ستكون عليه الأمور [في ظل حكومة أخرى]. في المقابل، يشكّل الاستنتاج أن تلك النتيجة تتطلب وجوداً غير محدد للقوات الأميركية، سيعني ضمنياً أنه يجب أيضاً نشر قوات أميركية إلى أجل غير مسمى في عدد من المناطق الأخرى من العالم التي ينشط فيها تنظيم “داعش” والتنظيمات المتفرعة من “القاعدة”، بأعداد أكبر مما هي عليه في أفغانستان، مع تشكيلهم تهديداً أكبر للولايات المتحدة. إضافة الى ذلك، تضاعفت قدرات الولايات المتحدة على مراقبة وضرب الجماعات الإرهابية بشكل كبير منذ 2001.

في نهاية المطاف، لا يعتبر قرار واشنطن سحب القوات الأميركية التفسير الوحيد أو حتى الأهم عمّا يجري في أفغانستان اليوم. وبالأحرى، يكمن التفسير في 20 عاماً من السياسات الفاشلة وقصور القيادة السياسية لأفغانستان. في المقابل، لا يزال بإمكاننا في الولايات المتحدة ألا ننتهي إلى نقاش مسموم حول “مَنْ خَسِرَ أفغانستان”. لكن إذا فعلنا ذلك، فلنعترف بأننا جميعاً خسرنا.

* شغل مايكل ماكينلي منصب سفير الولايات المتحدة في أفغانستان بين عامي 2014 و2016، وكذلك شغل منصب سفير الولايات المتحدة في البرازيل وكولومبيا وبيرو، وعمل مستشاراً أول لوزير الخارجية السابق مايك بومبيو.

مترجم من فورين أفيرز، يوليو (تموز)/ أغسطس (آب) 2021

 

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى