انتقلت الأوضاع في أفغانستان خلال الأسابيع القليلة الماضية إلى صدارة أولويات السياسة الروسية. وعلى النقيض من اعتقاد كثيرين من المراقبين بشأن “مفاجأة” إعلان موسكو استعدادها للاعتراف بحركة “طالبان”، وما أعرب عنه سفيرها لدى كابول من ارتياح لمبادرة الحركة إلى حماية مقر السفارة الروسية في كابول، فإن هناك مؤشرات تفيد بوجود “تنسيق غير معلن” توصّل إليه الكرملين مع “طالبان” قبل دخولها كابول، الأسبوع الماضي. وربما تجد موسكو في ذلك “ملئاً للفراغ” الناجم عن رحيل القوات الأميركية عن المنطقة.
وكشفت الأيام القليلة الماضية عن كثير من القرائن والأدلة التي تقول إن موسكو تتعجل استعادة مواقعها في المنطقة، في إطار تمسكها بسياسات “ملء الفراغ” التي تنتهجها منذ أعوام الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي السابق. ومن هذا المنظور البراغماتي الطابع، سارعت روسيا إلى الإعلان عن احتمال اعترافها بحركة “طالبان”، بل استعدادها للتعاون معها من أجل تجاوز المرحلة الراهنة والتحول نحو حماية الأمن والاستقرار في منطقة آسيا الوسطى، وإن كانت لا تستبعد احتمال الأخطار من جانب الحركة. وأكد سيرجى شويغو، وزير الدفاع الروسي، أن قوات “طالبان” تسيطر على المناطق المتاخمة للحدود مع طاجيكستان وأوزبكستان. وهو ما يفسر ما استبقت به موسكو دخول الحركة العاصمة الأفغانية، من مناورات ثنائية ومتعددة الأطراف في المناطق المتاخمة للحدود مع أفغانستان وشاركت فيها قوات منظمة بلدان “معاهدة الأمن الجماعي”، تحسّباً لاحتمالات تسلّل عناصرها إلى الأراضي الطاجيكية والأوزبكية، إلى جانب ما تتعرّض له هذه الأيام طاجيكستان من نزوح الآلاف من الأفغان، هرباً من حكم “طالبان”.
وتأتي التحركات التي تقوم بها القوات المسلحة الروسية بالتعاون مع حلفائها في الإطار البراغماتي ومقتضيات الأمن القومي الروسي، التي نصت عليها استراتيجية الأمن القومي بعد تعديلاتها الصادرة في مطلع يوليو (تموز) الماضي. وفي الأثناء، كشفت مصادر روسية وأميركية عن أن الرئيس فلاديمير بوتين ناقش مع نظيره الأميركي جو بايدن في لقائهما، في 16 يوليو الماضي، المسائل المتعلقة بالأوضاع في هذه المناطق، وقال إن بلاده تعارض أي دور للقوات الأميركية في آسيا الوسطى، ما يقوّض جهود الجيش الأميركي لمكافحة التهديدات الإرهابية الجديدة بعد الانسحاب من أفغانستان”، بحسب تقارير صحيفة “وول ستريت جورنال”. وسبق أن رفضت موسكو محاولات واشنطن الرامية إلى العثور على فرصة لإقامة قواعد عسكرية في أراضي بلدان الفضاء السوفياتي، يمكن أن تنتقل إليها قواتها الموجودة في الأراضي الأفغانية.
وكانت الولايات المتحدة، بمباركة من جانب روسيا، أقامت قاعدتين لها في أوزبكستان وقيرغيزستان، فضلاً عن التسهيلات التي حصل عليها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن من الرئيس بوتين، في أعقاب تفجيرات برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وتتعلق بالسماح للمقاتلات الأميركية بالتحليق في الأجواء الإقليمية لروسيا الاتحادية واستخدام مطار أولينافسك.
بوتين وترمب وبايدن “الفاشل”
وكانت مصادر روسية كشفت آنذاك عن أن الجانب الأميركي أطلق يدي الرئيس بوتين ضد الإرهاب في مناطق القوقاز، ما أسهم إلى حد كبير في تحقيق كثير من النجاحات في ضرب الحركات الانفصالية واجتثاث جذور الإرهاب فيها. وكان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، رصد تحولات السياسة الروسية واستراتيجيتها تجاه احتمالات العودة إلى مناطق نفوذها في الجوار القريب والفضاء السوفياتي السابق، انطلاقاً من المخاوف من احتمال عودة الاضطرابات في تلك المناطق على الصعيدين الداخلي والخارجي. ولعل ترمب كان أبعد نظراً من نظيره الحالي بايدن، حين كشف “عن اعتقاده بأن روسيا التي عانت كثيراً في الماضي من المشاركة في النزاع في أفغانستان، تنوي العودة إلى هذا البلد بعد انسحاب القوات الأميركية منه”. وأوضح ترمب أن الحديث يدور الآن عن روسيا، وهي أقل نفوذاً وتأثيراً مما كانت عليه في السابق (إبان عهد الاتحاد السوفياتي) بسبب أفغانستان. وقال إن واشنطن أنفقت الأموال والأعوام من دون تحقيق انتصار في أفغانستان… وما يجب أن تعمله هو أن تسأل روسيا عن رأيها. وسمعت أنهم ينوون العودة الآن. هي لا تتسرع. فكل من دخل (أفغانستان) لم يكن موفقاً في ذلك”.
ولعل الاتصالات التي يجريها الرئيس الروسي مع نظرائه في بلدان آسيا الوسطى والفضاء السوفياتي السابق، إلى جانب بلدان الاتحاد الأوروبي ومنها ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، تقول إن بوتين يحاول انتزاع زمام المبادرة من بايدن، وعدم تفويت فرصة الاستفادة من حالة “الضعف والهوان” التي تعيشها الإدارة الأميركية بسبب ما مُنيت به من فشل، وما تتعرّض له من انتقادات من جانب الكونغرس الأميركي والأوساط السياسية والاجتماعية، جراء ما يشوب عملية انسحاب القوات الأميركية من ارتباك. وهو ما وصفه ترمب بأنه “أكبر مهانة في مجال السياسة الخارجية للولايات المتحدة”.
وفي هذا الصدد، قال ترمب في تجمع لأنصاره في ولاية ألاباما إن “الانسحاب الفاشل لبايدن من أفغانستان هو أكبر شكل مثير للدهشة لعدم الكفاءة الفادحة من قبل رئيس للبلاد، ربما في أي وقت من الأوقات”. ومن الملاحظ أن وسائل الإعلام الروسية تنقل بشكل واسع النطاق ما تقوله وسائل الإعلام الأميركية بهذا الشأن. ومن ذلك ما أوردته أن “ترمب الجمهوري أنحى باللائمة مراراً على بايدن الديمقراطي في شأن سقوط أفغانستان في أيدي حركة طالبان الإسلامية المتشددة، على الرغم من أن الانسحاب الأميركي الذي تسبب في الانهيار تم التفاوض عليه قبل تولّي إدارة بايدن السلطة”.
وقال ترمب إن بايدن مسؤول بشأن عدم اتباع الخطة التي توصلت إليها الإدارة الأميركية السابقة، وأعرب عن أسفه تجاه ضياع المعدات والأفراد الأميركيين الذين جرى تركهم مع انسحاب القوات”. وأضاف أن ما حدث لم يكن انسحاباً، بل هو استسلام كامل… وطالبان التي تفاوض معها تحترمه”، مشيراً إلى أن الاستيلاء السريع على أفغانستان لم يكُن ليحدث لو كان هو في الرئاسة. وخلص إلى القول إنه “كان من الممكن أن نخرج بكرامة. كان يجب أن نخرج بكرامة، وبدلاً من ذلك خرجنا بعكس الكرامة تماماً”.
استعدادات موسكو
وفيما كان عدد من أبرز الزعماء الغربيين يحاولون لملمة ما بقي من رصيد الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان، كان بوتين يواصل مساعيه الرامية إلى ترسيخ مواقع روسيا في المناطق التي “فرّ” منها الأميركيون. وبينما كان بوتين أول من بادر إلى التعاون مع نظيره الأميركي جورج بوش الابن لتنفيذ عملياته المضادة للإرهاب في أفغانستان، يعود الرئيس الروسي إلى صدارة المشهد السياسي والعسكري في آسيا الوسطى، لاستعادة مكانة بلاده، متكئاً على ما اختاره من أساليب وتكتيك سعياً وراء الاستفادة القصوى من أخطاء خصومه وغرمائه التاريخيين.
وبعد استقبال وزير الخارجية سيرغي لافروف وفداً من “طالبان” في موسكو، وبعد ما أبداه السفير الروسي في كابول من تسامح تجاه “طالبان” وإعرابه عن الاستعداد للاعتراف بها والتعاون معها، عاد بوتين وفي أعقاب مباحثاته مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، ليعرب عن استعداد بلاده للاعتراف بالحركة الأفغانية، على الرغم من أن موسكو ما زالت تعتبرها منظمة إرهابية يُحظر نشاطها على الأراضي الروسية، بموجب قرار مجلس الأمن بمبادرة أميركية.
وتزامن ذلك مع ما أدلى به رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير من تصريحات، قال فيها وللمرة الأولى منذ انهيار الحكومة الأفغانية وسيطرة “طالبان” على السلطة، إن “التخلي عن أفغانستان وشعبها مأساوي وخطير وغير ضروري، وليس في مصلحتهم ولا في مصلحتنا”.
ومن اللافت في هذا الصدد أن بلير حرص على التحذير من وجود القوى التي تبدو الأكثر استفادة من الوضع الراهن، ومنها روسيا والصين وإيران، التي قال إنها “تراقب ما يجري في المنطقة، وتستفيد من الأوضاع الراهنة”، مؤكداً أن “الاستراتيجية الحالية للحلفاء الغربيين ستضر بهم على المدى الطويل”. وأضاف أن “العالم الآن غير متأكد من موقف الغرب، لأنه من الواضح جداً أن قرار الانسحاب من أفغانستان بهذه الطريقة لم يكُن مدفوعاً بالاستراتيجية بل بالسياسة”. وسأل بلير عما إذا كان الغرب فقد إرادته الاستراتيجية، محذّراً من احتمال تراجع مكانة الغرب وافتقاده ما كان يتمتع به من نفوذ. وأشار إلى أن “الالتزامات التي قطعها الزعماء الغربيون سيُنظر إليها على أنها عملة غير مستقرة”. فيما أعاد إلى الأذهان ما تراكم من خبرات التعامل مع ما وصفه بـ “الإسلام المتطرف”.
ويتوقف مراقبون في موسكو وخارجها عند عدد من اللقاءات والاتصالات التي أجرتها روسيا مع الأطراف المعنية، مشيرين إلى كثير من الدلالات التي تقول إن موسكو تمضي بثقة تتزايد كثيراً عن ذي قبل على طريق استعادة مواقعها في المجال الحيوي الاستراتيجي الذي تعتبره ضمن دائرة مصالحها الوطنية وأمنها القومي. ومن هذه الاتصالات ما أجراه بوتين مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان الذي يحظى بمكانة ونفوذ متميزين في علاقاته مع “طالبان”. وكان الزعيمان خلصا إلى ضرورة التنسيق المشترك بشأن أفغانستان، مع تأكيد “أهمية ضمان الاستقرار والسلام في البلاد والحفاظ على النظام والقانون، فضلاً عن تحديد أولويات مهمات محاربة الإرهاب وتجارة المخدرات”.
وأعرب لافروف عن اهتمام خاص بالتعاون مع باكستان لتحفيز الجهود الرامية إلى إطلاق ما سُمّي بالحوار الأفغاني – الأفغاني. وخلص لافروف في مكالمته الهاتفية مع نظيره الباكستاني شاه محمود قريشي، إلى أهمية التعاون بين بلديهما إلى جانب الصين والولايات المتحدة من أجل إطلاق ذاك الحوار، سعياً وراء تشكيل حكومة إنقاذ ائتلافية وضمان الاستقرار وسيادة القانون في أفغانستان.
وفي بيانها الصادر بهذا الصدد، أشارت وزارة الخارجية الروسية إلى أن الوزيرين تطرقا في حديثهما إلى آفاق التعاون بين موسكو وإسلام آباد، ضمن إطار منظمة شنغهاي للتعاون التي تضم كلاً من روسيا والصين والهند وباكستان وبلدان آسيا الوسطى، وغيرها من المنصات الدولية.
المصدر: اندبندنت عربية