على الرغم من كونها فضيحة عالمية مدوية ومن طراز متميز نظراً الى ما تشكله من تهديد للسلامة الشخصية والأمن الشخصي لآلاف الشخصيات والمسؤولين في أنحاء العالم، كما لأمن دول بحالها وسلامتها؛ إلا أنه تم طمسها تماماً فلم تعد تشير اليها أي وسيلة إعلامية في العالم. وكأنها لم تكن أصلاً… اختفى كل أثر عنها بتاتاً… وهذا يدل على مدى سطوة الإمتدادات الصهيونية – الأميركية على وسائل الإعلام العالمية.
فضيحة بيغاسوس بطلتها شركة NSO الإسرائيلية المتخصصة بتقنيات الإتصال والتخابر والتجسس وقد زودت جهات كثيرة ببرنامج متخصص دقيق جداً للتجسس على المكالمات الشخصية بشكل سري طبعاً وهو ما نتج منه التجسس على مكالمات وإتصالات مئات آلاف الشخصيات المتوزعة في كل أنحاء العالم.
وعلى الفور سارعت الدوائر الرسمية في إسرائيل للتنصل من مسؤوليتها عن الفضيحة بحجة أن الشركة الإسرائيلية باعت البرنامج لمن يريد. ومع أن هذا مجرد تبرير غير صحيح لأن الشركة صنعته بغرض التجسس أصلاً بمعنى أن جميع مستخدميه سوف يستعملونه لهذا الغرض.
وعلى الرغم من ضجة عالمية جراء الفضيحة، إلا أن وسائل الإعلام العالمية تغاضت عنها بسرعة قياسية لدرجة طمس أي كلام عنها أو عن نتائجها الدنيئة أسلوباً وغاية.
وهذا يثير مجدداً مسألة الدور السلبي للإعلام العالمي لكونه مملوكاً وتابعاً لأطراف النظام الرأسمالي الصهيو – أميركي وتوابعه وإمتداداته المحلية في كل مكان. كذلك لتأثيره المرعب في توجيه إهتمامات الناس وفقاً لما يريد وما تقتضيه مصالح مالكيه… وهذا يدلل على مدى فعاليته في صناعة وعي عالمي مزيف يساهم في توجيه الأحداث والاهتمامات وفقاً لإستراتيجياته ومشاريعه السياسية الخبيثة الطامعة بالإستحواذ على مقدرات البشر ونتاج عملهم وثروات بلادهم ومقدرته على طمس الحقائق وإبراز ما يناسبه من أحداث تخدم سياساته في العالم.
ليس هذا جديداً أو غريباً. فها هي معاناة الشعب السوري لا تحظى بأي أهتمام إعلامي عالمي بل على العكس يساهم هذا الإعلام في طمس عذابات الشعب السوري والتضحيات والأثمان الباهظة التي قدمها ولا يزال دفاعاً عن حريته وكرامته ووجوده أيضاً.
في كل الأحوال فإن فضيحة بيغاسوس تمثل سقوطاً أخلاقياً إضافياً وعميقاً للعقل الإسرائيلي الساقط أصلاً في اعتباراتنا الوطنية والقومية والإنسانية. إلا أنه وهو يقدم نفسه للمجتمعات العالمية بصفته عقلاً متحضراً ومجتمعاً ديموقراطياً يتوالى انحداره الأخلاقي في أتون الفساد والعنصرية والفكر الإستخباري التجسسي الذي لا يقيم أدنى أعتبار لأية قيمة إنسانية.
ليس هذا جديداً أو غريباً على العقل الصهيوني وبواعثه اللااخلاقية والإجرامية، وعليه سوف تكون هذه الفضيحة دافعاً لمزيد من الوعي النخبوي والأكاديمي الغربي تحديداً حول الطبيعة العدوانية للعقل الإسرائيلي ومدى عقمه وإنعدام قدرته على التعاطي الإنساني – الأخلاقي مع الشؤون العامة والخاصة للآخر أياً كان…
هذا الوعي النخبوي والأكاديمي الغربي كان قد ظهر جلياً ومتسعاً أيضاً خلال انتفاضة القدس الأخيرة وقضية حي الشيخ جراح… وكانت المشاركات الشعبية في التظاهرات المنددة بالممارسات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، من الإتساع والتميز حيث ضمت فعاليات ثقافية وفنية ونخباً شبابية وطالبية وأكاديمية تضم بينها اصواتاً يهودية غير قليلة.
المؤسف أنه لا توجد في الساحة العربية مؤسسات تعنى باستثمار مثل هذا الإنحدار الفضائحي لكسب المزيد من الرأي الحر إلى جانب قضية شعب فلسطين والقضايا العربية العامة والتي تشكل دولة إسرائيل أهم وأخطر التحديات الوجودية عليها…
والمؤسف الخطير غياب المؤسسات الفلسطينية التي كانت تملك القدرة على مثل ذلك الاستثمار وتجيد التفاعل مع الرأي الحر في العالم الغربي الذي يدرك معنى الخطر الصهيوني، ليس على الفلسطينيين والعرب وحسب، بل على الإنسانية جمعاء.
وعلى الرغم من توافر خبرات تقنية تكنولوجية متقدمة في إسرائيل بفضل التسهيلات الهائلة التي يقدمها النظام الرأسمالي الأميركي لها؛ إلا أنها تفتقد أي حس إنساني وأي خلفية أخلاقية أو إيمانية حقيقية رغم تخفيها وراء فكر ديني منغلق عنصري متعصب. وهو ما يدركه الكثير من الأكاديميين الشرفاء في معاهد وجامعات الغرب ممن لم ينصاعوا لأكاذيب الدعاية الصهيونية بعدما عايشوا كذبها واقعياً وميدانياً.
المؤسف أيضاً أن كثيراً من الجهد الفلسطيني الذي يتفاعل مع هذا التنديد العالمي المتزايد ويستثمره ويترجمه في مواقف سياسية وتظاهرات تضامنية عملانية قد تراجع او أضحى ضعيفاً أو في حدوده الدنيا منذ توقيع اتفاق اوسلو وإقامة سلطة فلسطينية تحولت إلى عائق أمام حقوق شعب فلسطين.
قبل أوسلو كان النشاط الفلسطيني الثوري يغطي معظم أرجاء العالم. ومنذ أوسلو تراجعت كل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وانزوت بدءاً من مؤسسة الدراسات الفلسطينية الرائدة.
وإذا استمر سكوت الإعلام العالمي عن فضيحة بيغازوس فلسوف يكون هذا أيضاً تجربة جديدة إضافية تقلل من مصداقية الإعلام الحديث الى درجة كبيرة وتشكك في خلفياته وأدواره.
المؤسف أيضاً أن هذه الفضيحة تأتي في وقت تغيب فيه أي مشاريع واضحة طامحة لنهضة عربية جامعة، ما يسهل طمسها وتجاوزها لمصلحة التغول الإسرائيلي في الجسم العربي.
المصدر: النهار العربي