فشلُ الديمقراطيةِ وحكمِ المؤسساتِ أمامِ الملكية البريطانية

د. أحمد سامر العش

مع انتكاسةِ الولاياتِ المتحدة الأميركية في أفغانستان وغزوِ اليمينِ المتطرف لصناديق الاقتراعِ في أوروبا، تَظهرُ الملكيةُ البريطانيةُ ومركزيةُ القوى بها بيد الملكةِ كالنموذج الأنجح والأقوى بين تجاربِ المنظومة الغربية المسيطرة على العالم .

قد يقولُ بعضُهم : إنَّ الملكةَ البريطانيةَ تملكُ ولا تحكمُ فأين المركزيةُ في القرار ؟! لمن لا يعرفُ النظامَ في بريطانيا يمكنُه أن يتشدقَ بهذه العبارةِ ، أما من يُدركُ آلياتِ الحكمِ واتخاذِ القرار وتوازن القوى في التاج البريطاني يستطيع أن يدركَ أن التاجَ البريطانيَّ أقربُ ما يكون لمفهوم الخلافةِ في صدر الاسلام!

فعلى الرغم من تحول المملكة المتحدة إلى ملكية دستورية في العام 1688 إلا أنَّ العرشَ البريطاني احتفظ بالعديد من المزايا والصلاحيات غير العادية. إليكم أبرزَ ستةِ صلاحياتٍ للملكة إليزابيث الثانيةِ حاكمةِ العرش البريطاني و رابطةِ الشعوب البريطانية Commonwealth والتي تُبرزُ مركزيةَ الملكِ في أعرق الديمقراطيات:

  1. إعلانَ الحرب وقيادةَ القوات المسلحة البريطانية:

في أغلب الدولِ الديمقراطية، تقعُ مسؤوليةُ شنِّ الحربِ على البرلمان المنتخب . فإذا صوتت أغلبيةُ الأعضاءِ المنتخبين لصالح إعلانِ الحربِ على دولة أخرى، تتحركُ الجيوشُ وتنفذُ القياداتُ العسكرية الأمرَ .

أما في بريطانيا ، فماتزالُ سلطةُ إعلانِ الحرب ومسؤوليةُ قيادةِ القوات المسلحة البريطانية في يد الملكة إليزابيث الثانية. وتنعكس الآية، حيث يجب على البرلمان أن يُصدقَ على أوامر الملكةِ بعد إعلانها الحرب. لم تستخدمْ الملكةُ إليزابيث هذه السلطة من قبل . ولكن تاريخياً استخدمها أبوها الملكُ جورج السادس حينما أعلن الحرب على ألمانيا النازية في العام 1939.

كما تُعدُّ الملكةُ القائدَ الأعلى للقوات المسلحة، حيث يُقسِمُ كلُّ جندي وجنرال وما بينهما من رتب عسكرية بالولاء للملكة وللعرش. ولذلك تُعَدُّ القواتُ المسلحة البريطانية، قواتِ العرشِ وليست قواتِ الحكومة.

  1. حلَّ البرلمان البريطاني

تستطيعُ الملكةُ حلَّ البرلمان البريطاني في حال لم تكنْ راضيةً عن أداء الحكومة . ومن سلطاتها أيضًا إعادةُ عقدِ انتخاباتٍ شعبيةٍ لانتخاب أعضاء البرلمان.

  1. التصديقَ على القوانين والتشريعات

سنُّ القوانين جزءٌ رئيسيٌ من العملية التشريعية وهي بطبيعة الحال من صلاحيات البرلمان المنتخب، لمناقشة مشاريع القوانين والتصويت عليها حتى تتم الموافقةُ أو الرفضُ لتصبحَ قانونًا في البلاد. ولكن في المملكة المتحدة لا تصبحُ القوانين شرعيةً، إلا بعد موافقةِ الملكة عليها. وهي عملية تسمى بالإنجليزية “Royal Assent” وتعني الموافقةَ الملكيةَ.

وبهذا الشكل تُرفَعُ القوانينُ المقترحةُ من البرلمان للعرش، ومن حق الملكةِ أن ترفضَها لأي سببٍ من الأسباب.وبالرغم من هذه السلطةِ التشريعية المطلقة التي تتمتعُ بها الملكةُ، إلا أنها تكاد لا تستخدمها قط. وتاريخياً، آخر مرة قام بها أحدُ الملوك البريطانيين برفض تشريع قانون، كانت في العام 1708.حينها رفضت الملكةAnne آن (March 1702 – 1 May 1707) قانوناً كان من شأنه إعادة تشكيل الميليشيات الاسكتلندية.

  1. إقالةَ الحكومةِ الأسترالية بأكملها:

تستطيع الملكةُ إليزابيث إقالةَ الحكومة الفيدرالية الأسترالية بأكملها شاملةً رئيسَ الوزراء وأعضاء حكومته. وبالفعل استخدمتِ الملكةُ سلطتَها لإقالة الحكومة الأسترالية في العام 1975. حيث أوصت ممثلَ العرش في أستراليا، الحاكم العام آنذاك جون كير John Kerr ، بإقالة الحكومة.

  1. صلاحيةَ تعيينِ وإقالة الوزراء و صلاحيةَ تعيين رئيس الحكومة:

 الملكةُ هي المسؤولة عن تعيين رئيس الحكومة عقبَ أي انتخابات عامة أو في حالة استقالته لأي سبب. ففي حالة الانتخابات العامة تقومُ الملكةُ بتعيين المرشح الأوفر حظاً بالفوز بأكبر قدر من الدعم من جانب مجلس العموم. وفي حالة الاستقالة، تأخذ الملكة بنصيحة مستشاريها حول الشخص الذي ينبغي أن يتولى رئاسة الحكومة.

  1. الملكةَ تمتلكُ جميعَ الدرافيل و الحيتان والسلاحف في المياه الإقليمية البريطانية

ويعود قانونُ امتلاك العرش البريطاني لكامل حيوانات فصيلة الدرافيل وغيرها من الحيوانات المائية إلى العام 1324 حين أصدره الملكُ إدواردُ الثاني.ويُعَدُّ هذا القانونُ سارياً حتى اليومِ في المياه البريطانية، إذ تُعَدُ هذه الحيواناتُ ملكاً للعرش.

إذن تشملُ الصلاحياتُ الملكيةُ صلاحياتِ تعيينِ الوزراءِ وعزلَهم، وتنظيمَ الخدمة المدنية، وإصدارَ جوازاتِ السفر، وإعلانَ الحرب، وصنعَ السلام، وتوجيهَ أعمالِ الجيش، والتفاوضَ والتصديقَ على المعاهدات والتحالفات والاتفاقيات الدولية.الملك هو قائدُ القوات المسلحة ( البحرية الملكية، والجيش البريطاني، وسلاح الجو الملكي )، وهو مَنْ يعتمدُ المفوضين الساميين والسفراء البريطانيين، ويستقبلُ رؤساءَ البعثاتِ من الدول الأجنبية.

أما دستورُ المملكةِ المتحدة:( Constitution of the United Kingdom) الذي هو نظامُ القواعدِ الذي يُقررُ الحكمَ السياسي للمملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية,فهو على عكس مُعظم البلدان لم يُدون في وثيقة واحدة. ومع ذلك، فإن المحكمةِ العليا للمملكة المتحدة تعترفِ بوجود مبادئَ دستوريةٍ، بما في ذلك السيادة البرلمانية، وسيادة القانون، والديمقراطية ودعم القانون الدولي.

أما مجلسُ عموم المملكة المتحدة:( House of Commons of the United Kingdom)‏ ويُعرَفُ اختصارًا باسم مجلس العموم، فهو يشغل الغرفة السفلى من برلمان المملكة المتحدة، والغرفة العليا يشغلها مجلس اللوردات. يُنتخَبُ مجلسُ العموم بطريقة الاقتراع السري المباشر لاختيار 650 عضوا – وقد أصبح هذا عددهم منذ الانتخابات العامة لعام 2010 – وتُجرى انتخاباتُ المجلس بطريقة الدوائر الانتخابية أو مناطق التصويت، وهم يشغلون مقاعدهم لحين انتخاب أعضاء آخرين بعد مضي خمس سنوات.

أما الغرفة الثانية للبرلمان في بريطانيا، فتضم أعضاء معينين من الخبراء والنبلاء والأساقفة يختارهم الملك. ويُكمِلُ مجلسُ اللوردات عملَ مجلسِ العموم المنتخب، و يشاطرُه مهمةَ صنع وصياغة القوانين والتدقيق ومراجعة عمل وقرارات الحكومة. حتى عام 1832 كان لمجلسي العموم المنتخب واللوردات المعين سلطاتٌ متساويةٌ تقريبًا، لكن قانون الإصلاح في ذلك العام قلص كثيرا من سلطات مجلس اللوردات. في عامي 1911 و 1949 قُلِصت صلاحياتُ وقوةُ مجلس اللوردات، وبدأ البرلمان عمليا عام 1999 بتقليص عدد أعضاء مجلس اللوردات من فئة النبلاء بالوراثة.

إذن الملكةُ تلعبُ دورَها الدستوريَّ في افتتاح وحلِّ البرلمان وإقرارِ مشاريع القوانين قبل أن تصبحَ قانونا. وحيث إن أعلى سلطةٍ تشريعية تتكون من مجلسي العموم واللوردات والملكة. فإن قوةَ العرش مازالت الأكبر عملياً والسببُ أن الغرفةَ العليا للبرلمان تتم بالتعيين لا بالانتخاب . وإن كان قانون الإصلاح 1832م سَلَبَ كثيرًا من سلطة مجلس اللوردات وقلصتِ القوانينُ البرلمانية لعام 1911 م و عام 1949م فعاليةَ مجلس اللوردات وبدأ البرلمان في عام 1999م تقليصَ عدد أعضاء مجلس اللوردات من فئة النبلاء بالوراثة ، لكن يظل قوةً ضاربةً في يد الملك يستخدمُه أينما ومتى يشاء.

بعد كلِّ هذا الاستعراضِ للنظام الذي باعنا الوهمَ وصدرَ لنا النموذجَ الأنجلوسكسوني للديمقراطية والذي سبق النموذج الفرنسي بمائة وواحد عام (1789 بداية الثورة الفرنسية- إعلان الملكية الدستورية 1688), علينا أن نعلم أننا بحاجة لإعادة النظرِ في المفهوم والديناميات لنظام الحكم الذي يناسبُنا، و يمكِّنُنا من العودة لتبوء مكانٍ يليقُ بنا بين الأمم والشعوب. نظام حكم مُبدعٍ يناسبُ ثقافتَنا وديننا ويخرجُ من عقدة الجغرافيا التي وقع بها العَلمانيون وعقدةِ التاريخ التي وقع بها الاسلإميون. لقد وصفنا في مقالنا السابقِ الروحُ المعذبةُ التي يعيشُها النازحُ والمهجر ، وتأثيرها على الحالة الذهنية والاعتلال الاجتماعي الذي نعيشه وانعكاسات هذا حكماً على بناء الوطن والإنسان . لكن ما العلاقةُ بين أرواح المسلمين المعذبة و حالتِهم الذهنيةِ وبين سلوكنا الاجتماعي ونحن- وكما يشهدُ واقعُنا- أقربُ إلى التناحر والتفرق منه إلى التوحد والبناء؟ تلميذ أرسطو ثيوفراستوس Theophrastus( 371- 286 قبل الميلاد ) كان يصفُ المختل العقلي بالروح المعذبة ، كذلك ميَّز علماءُ النفس السلوكي بين الاعتلال الاجتماعي والاختلال العقلي ،حيث أشاروا إلى أن الاعتلال الاجتماعي يختلف عن الاختلال العقلي فالأول نتيجة سلوك اجتماعي مضاد بفعل الصدمة أما الاختلال العقلي فيتعلق بالتكوين الجيني والبيولوجي للعقل .لقد وصف القرآن الكريم الخلل الجيني والبيولوجي للأعراب بالآية 97 من سورة التوبة (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة-97) وكذلك وصف الخلل الجيني لليهود في الآية 88 من سورة البقرة (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ) (البقرة-88) . لكن هذا لا يعني أننا كبشر لا نستطيع تجاوزَ هذا الخللَ الجينيَّ والبيولوجي إذا امتلكنا إرادةَ التغيير – وهذا من عدالة الخالق – وإلا لم يكنْ لعبد اللهِ بنِ سلامٍ ومخيرق بني النضير رضي الله عنهما أن ينجوا “على قلتهم”, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو آمن بي عشرةٌ من اليهود لآمن بي اليهود “رواه البخاري” ، أما الاعتلالُ الاجتماعي نتيجة الصدمة والذي عانينا منه ومازلنا لأجيال واجيال فقد عانى منه كذلك من يحكمون العالم اليوم بعد الحروب والمذابح الدينية في القرون الوسطى ولكن عندما جلسوا لينهضوا من كبوتهم نجحوا في بناء مجتمعاتهم ودولهم لكن – مع الأسف- على حساب الآخرين ! وهنا النقطةُ المحوريةُ في مقالنا هذا ، حيثُ لن تَصلحَ النماذجُ المصدرة لنا في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في صنع التغيير لأن التغييرَ يبدأ من علاج الخلل الجيني والبيولوجي وكذلك استيعاب الصدمةِ وتجاوز مرحلة الاعتلال الاجتماعي إلى مرحلة البناء كما فعل الآباء المؤسسون، والتاج البريطاني ، والصحابة في صدر الإسلام وإن كان النموذجان الأوليان لطرف من البشر على حساب طرف آخر بينما النموذجُ الثالثُ فكان ومازال للبشرية جمعاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى