عبد الرحمن حلاق كاتب سوري متميز، ينتمي للثورة السورية، قرأت له سابقًا رواية قلاع ضامرة، وكتبت عنها. رقصة الشامان الأخيرة رواية تتحدث عن الثورة السورية من خلال رصد حياة مجموعة من ناشطي الثورة السورية التي انطلقت في منتصف آذار عام ٢٠١١م، مركزة زمنيا على الربع الأخير من عام ٢٠١٢م وبدايات عام ٢٠١٣ م وما حصل في مدينة حلب السورية، حيث تم قصف النظام لجامعة حلب وحصول مجزرة بين الطلاب. كما تناولت بشكل روائي متقن كل الظروف التي واكبت الثورة السورية، بدء من اندفاعة الشعب السوري لمواجهة الاستبداد وكسر طوق الذل والقهر والمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية والحياة الافضل، الى الرد القمعي الوحشي للنظام على الشعب السوري، الى التدخلات الخارجية الداعمة للنظام والمشوهة للثورة والدافعة لحرفها عن مسارها، وإعطائها هوية إرهابية من خلال التطرف المذهبي او العنف الوحشي للجماعات الجهادية متمثلة بالقاعدة ومسماها النصرة وداعش وما تولّد منهما. كذلك الوجه الطائفي للنظام الذي اعتمده بمواجهة الشعب سواء باستدعاء الايرانيين و حزب الله والمرتزقة الافغان وامثالهم بهويتهم الطائفية العلوية – الشيعية، لخلق شرخ مجتمعي لا علاج له.
كل ذلك حاضر في الرواية التي تعتمد لغة المتكلم حيث يفتتح الكاتب الرواية بمدخل يتكرر تباعا يبدوا عائدا للروائي نفسه بلغة رمزية مفعمة بالايحاءات تتأمل مستقبلا أفضل في سورية. كما يتناوب حضور أبطال الرواية على منصة البوح، ينسجوا الرواية و تكتمل معالمها وأحداثها ورسالتها.
خالد وحمزة وسهيل وزكريا وصفاء وصباح وريم وآزاد وغيرهم يمثلون نماذج من شباب وشابات الثورة السورية، انهم يمثلون خارطة سورية الجغرافية بدء من السويداء حتى حلب، ويمثلون مكونات الشعب السوري المذهبية من السني إلى العلوي والدرزي وبقية المذاهب، الى التنوع الديني المسيحي المسلم، كذلك التنوع الإثني العربي الكردي. بحيث تخبرنا الرواية عبر ابطالها أن الثورة السورية هي ثورة الشعب كله بكل مكوناته، وان هناك طرفان في سورية الشعب السوري بكل مكوناته مقابل النظام الذي يحاول الاستيلاء على الطائفة العلوية ليستعملها اداة ضد الشعب السوري، النظام المستبد المجرم وأمنه وجيشه وشبيحته ومخبريه ومرتزقته هم اعداء الشعب والمضطهدين له. هؤلاء الثوار الناشطين يبوحون في الرواية بما حصل معهم و في سورية عبر سنوات ثورتنا الاولى.
بدأت الثورة على يد ناشطيها بالتظاهر السلمي والتجمعات في الأماكن العامة، والمطالبة باسقاط النظام القمعي المستبد الفاسد وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية العادلة. لكن النظام ورده الوحشي بحق الشعب السوري، حيث واجه التظاهر بالعنف المسلح العاري، وقتل المتظاهرين واعتقالهم وتصفيتهم، كل ذلك دفع النشطاء لتغيير أدوارهم وأعمالهم. فقد استطاع النظام أن يطفئ شعلة الثورة والتظاهر في بعض المدن ومنها السويداء، حيث اعتمد على التجييش الطائفي والضغط على الناشطين والتحكم بحركتهم. فما كان منهم الا الانتقال الى الادوار الاغاثية لكثير من النازحين الهاربين من المدن والبلدات المجاورة في درعا وريفها. ضحايا بطش النظام ووحشيته. كذلك البعض الذي قرر الانتقال الى المناطق والبلدات المحررة والقيام بادوار اغاثية تعليمية ورعاية الأطفال ودعمهم نفسيا، بعد أن أصبح النظام يقتل الثوار والناشطين والحاضنة المجتمعية كاملة في كل المدن والبلدات الثائرة. لذلك قرر غيث ابن مدينة السويداء ان ينتقل الى حلب ليشارك الناشطين الثوريين هناك أدوارهم الإغاثية الرعائية التربوية. ترافقه حبيبته صفاء ابنة بلده ويصلون الى حلب بعد عناء متنقلين في المناطق الثائرة المحررة ليصلوا الى حلب ويكونوا جزء من نسيج ناشطيها الثوريين، الذين استمروا متمسكين بسلمية الثورة والأدوار الرعائية والإغاثية والتعليمية. خاصة ان كثير من الأطفال قد تشردوا وفقد بعضهم عائلته وأصبح هناك أطفال ضحايا عنف النظام يحتاجون لرعاية نفسية ومجتمعية كاملة.
حلب هي مسرح الرواية الأساسي التي ظهر فيها التضامن المجتمعي على أعلى مستوياته. فيها أبناء حلب المدينة والريف متضافرين مسلميها ومسيحييها والعلويين الملتحقين بها وكذلك الأكراد من سكانها والشباب الدرزي الملتحق بها مثل غيث وحبيبته صفاء. يعملون كخلية نحل بشكل متواصل في رعاية الأطفال في ملاجئ تحت الأرض في حلب الشرقية التي تحررت في سنوات الثورة الأولى، كل يقوم بدوره. البعض إغاثي والبعض في مشافي ميدانية متواضعة والبعض تعليمي، وكذلك في ترميم الجانب النفسي للاطفال. التحق غيث بفريق العمل في حلب المتنوع بمذاهبه واديانه و اثنياته، كذلك في اعماره بدء من العشرينات حتى العقد الخامس من العمر. الكل يعمل ويقوم بدوره بحب وعطاء وتفاني. إنهم صورة سورية الجديدة التي يأملون بخلقها ويعملون لذلك.
لكن واقع الحال لم يكن ورديا كما كانوا يأملون، النظام، كان قد قرر منذ أشهر الثورة الأولى أن ينهي الثورة ومطالبها و ناشطيها، بالقتل والاعتقال والافناء ولو قتل اغلب الشعب السوري وشرّده . ودمر البلاد على رؤوس أهلها. لذلك كانت النتائج كارثية لفعل النظام، مدن وبلدات محررة لكنها محاصرة ومدمرة واهلها مقتولون مشردون. كذلك ظهور مجموعات مسلحة رديفة النظام من الشبيحة إضافة للأمن والجيش هذا غير المرتزقة الايرانيين والافغان وحزب الله اللبناني بلونهم الطائفي الشيعي. كما اعتمد النظام على اختراق الثورة و ناشطيها وخاصة في المجال العسكري، فقد اعتمد على صبغ الثورة بصورة الإرهاب الديني السني التابع لاجندات جماعات مصنفة ارهابية مثل القاعدة وداعش والنصرة، الذين تواجدوا في سورية وتمددوا في المناطق المحررة بحيث أصبحوا هم القوة الحقيقية على الأرض. هذا في الوقت الذي تم به عزل وعدم دعم مجموعات الثوار الذين أخذوا الخيار العسكري اضطرارا تحت مسمى الجيش الحر، وكيف تم اهمالهم و تم انهائهم وتفتيتهم ودعم الانتهازيين بينهم، تعدد الداعمين وتنوع أجنداتهم. مما اعطى ذريعة للنظام أن يبطش بالشعب تحت دعوى محاربة الإرهاب. ومبررا للنظام العالمي لاهمال الواقع السوري، وان هناك حرب اهلية وان ترك السوريين يقتلون بعضهم خير للعالم اجمع، انهم يتابعون المقتلة السورية، يكتفون بالتنديد. هذا في الوقت الذي تم ضخ المال والسلاح من متبرعين مجهولين أو معلومين، خاصة من دول الخليج لمجموعات اسلامية جهادية بأجندة داعش والقاعدة، بحيث أضرّت بالثورة واستولت عليها وخربتها. كل ذلك بمعرفة النظام واختراقها لها، بحيث حولها في كثير من الاوقات لتكون أداته في تصفية الناشطين والثوار، تمثل في الرواية بعدنان المخبر الشبيح الذي قتل أخاه الناشط في مظاهرة ثم ادعائه الالتحاق بالثوار وتشكيله مجموعة مسلحة تدعمها أطراف خليجية تطرح اجندة اسلامية جهادية. تخدم النظام واجندته بالمباشر، هذا ماتم معرفته عندما انتهى دور عدنان وهرب بالمال الذي جناه من تجارة السلاح ليعود إلى النظام الذي استخدمه في تخريب الثورة وحرفها. كل ذلك تزامن مع عنف اعمى على الشعب في حلب الشرقية كنموذج عن المناطق المحررة في كل سورية. هذا غير الحصار ونقص جميع أسباب الحياة، مما جعل الناس يتركون كل ما يملكون ويهربوا بأرواحهم خارج المناطق المحررة، الى داخل سورية أو خارجها في دول الجوار، خاصة تركيا. لم يتبقى في حلب المحررة الا القليل من الناس الذين لم يستطيعوا أن يهربوا. او أرادوا الاستمرار في بيوتهم او ما تبقى منها، وقبول الموت فيها. اقترن ذلك أيضا مع ولادة ظاهرة التعفيش وهي نهب علني لكل البيوت المتروكة من أهلها. وكانت كثير من المجموعات المسلحة التي تدعي انتماءها للثورة تشجع الناس على الهروب من المناطق المحررة لتستبيح بيوتهم واملاكهم. تاركة البيوت خاوية على عروشها تبكي أصحابها. وزاد من الطين بلة ان النظام قد استعان بإيران وروسيا والمرتزقة الطائفيين بشكل علني، وهذا جعل سورية مستباحة بشكل كامل.
في هذه الأجواء تواجد غيث و آزاد وصفاء وصباح وخالد وحمزة وسهيل… وبقية الناشطين كأنبياء جدد يناضلون في إمكانياتهم المتواضعة ليعيدوا صورة الثورة الى هويتها الاصلية ويقومون بادوار إنسانية تبدو اشبه بمعجزة في هكذا ظروف. يتبادلون الأدوار والمهمات. رعاية الأطفال وتعليمهم ودعمهم نفسيا. الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي. وإصدار الجرائد الثورية الورقية وعبر النت، العمل في المشافي الميدانية. الالتحاق بما تبقى نظيفا من كتائب الجيش الحر على الجبهات المفتوحة مع النظام مثل مدرسة المشاة. الاستمرار بالأدوار الثورية في الجامعة بين الطلبة، رغم خضوعها للنظام، القيام بأنشطة ومسرحيات للأطفال، وكذلك تدريبات من فنون وكتابة وغيره. انهم شعلة الثورة المتوقدة رغما عن أنف النظام و حلفائه وداعميه والعالم الصامت عن المذبحة السورية.
لكن واقع الحال حيث اختلال توازن القوى الحقيقي لقوى الشباب الثوري الناشط المتواضعة في مواجهة آلة النظام وحلفائه، تعني أن الشعب و ناشطيه سينهزمون في الميدان إما قتلا أو إعتقالا أو تشريدا. سيصاب غيث واغلب فريقه الداعم للاطفال جراء برميل متفجر ترميه طائرات النظام المجرم، يستشهد البعض ويحول إلى المشافي الميدانية. إصابته بليغة، يحول الى مشافي أكثر تجهيزا في مناطق محررة اخرى ثم الى تركيا ولكنه يموت على الطريق. يُعاد لأرض الوطن حيث طلبت جدته دفنه في بلدة درزية لكن المسؤولين و شيخ العقل فيها يرفضون ذلك تحت ضغط النظام وتهديده. كما يرفض حكام المناطق المحررة من الجماعات الجهادية والنصرة دفنه فيها لاعتباره غير مسلم على مذهبهم. مشايخ سورية الحقيقيين ممنوعون من إبداء رأيهم وهم مقموعون من الشيوخ القادمين مع الجهاديين الأجانب، القادمين للجهاد ضد النظام النصيري ؟ !!، كل ذلك جعل الشعب رهينة لهم تماما كما فعل النظام بالضبط. وتم أخيرا القاء جثة غيث ابن الثورة في جب روماني قديم – سرا- في احدى البلدات؛ لأن وطنه ومن يتحكم به لم يمنحه بقعة أرض صغيرة يدفن فيها. رغم كونه وأمثاله من أبناء الثورة الشهداء والمعتقلين هم روح سورية وهويتها وحقيقتها. كذلك يستشهد أزاد على جبهة مدرسة المشاة في حلب وتستشهد حبيبته الطالبة وغيرها من الطالبات والطلبة في جامعة حلب، جراء إلقاء برميل متفجر على الطلبة فيها وهي في مناطق سيطرة النظام. بعض الناشطين من اصدقاء غيث و آزاد وصفاء استشهدوا مثلهم، والبعض رحلوا يأسا الى خارج سورية، والبعض استمروا قابضين على الجمر يحملون راية الثورة ورسالتها ويقومون بأدوارهم مهما تواضعت في مدينة حلب…
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها نقول:
نحن أمام رواية رائعة أخرى عن الثورة السورية، حيث اعادت صوغ ما حصل في الثورة السورية في سنواتها الاولى خاصة في حلب، حيث، وغيرها من الأعمال الادبية والفكرية المتعلقة بالثورة السورية، أبقت الق الثورة على حقيقته وإشعاعه الاصيل، ووثقت للتاريخ وللأجيال القادمة الواقع كما عاشه الشعب السوري. كما اماطت اللثام عن الأدوار الخارجية؛ سواء الدولية الصامتة عن قتل الشعب السوري، او عن فعل النظام الاجرامي وحلفاؤه معه ايران وروسيا وحزب الله و المرتزقة الطائفيين بحق الشعب السوري، كذلك اصطناع ظاهرة الارهاب الدولي واستقدامها الى سورية ودعمها. ممثلة بداعش والقاعدة والنصرة ومثيلاتها. لتشويه الثورة السورية وتبرير تصفيتها مع قتل الشعب السوري وتشريده وتدمير مدنه وبلداته.
الحساب الختامي لفعل النظام وكل اعداء الشعب السوري في مواجهة الثورة السورية كان كارثيا بكل المعاني: مقتل أكثر من مليون سوري دون وجه حق، اعتقال أكثر من مليون إنسان وتغيبهم وقتل أغلبهم أيضا، تشريد ثلاثة عشر مليون إنسان، أكثر من نصف الشعب السوري داخل سورية وخارجها. مع ما اقترن بذلك من خسارة أسباب العيش لأغلب هذه الملايين. والأسوأ أننا مازلنا ضحية تواطؤ عالمي مع النظام المستبد القمعي الطائفي القاتل، يعملون لإعادة شرعنته واستمراره حاكما وقاتلا مؤبدا فوق رقاب الشعب السوري. مع ما نتج عن ذلك احتلال واقعي لسورية من قبل إيران وروسيا وأمريكا كل يتواجد بطريقته، وحيث يستثمر وينهب في سورية. كذلك الصمت عن توسع ال ب ك ك حزب العمال الكردستاني بنسخته السورية ال ب ي د الانفصالي الكردي، وبحماية أمريكية بالسيطرة على الشمال الشرقي السوري وشرق الفرات ومنطقة الجزيرة السورية بما فيها من نفط وخيرات زراعية ومناجم مختلفة… الخ.
الشعب السوري وسورية ليسوا بخير…لكن ثورتنا مستمرة، ثورة الحق والحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل. وهذه رسالة الرواية.