أدّى بيان ممثّلة اليونيسف في لبنان، يوكي موكو، إلى عاصفة إعلاميّة يوم الجمعة (٢٣ تموز/ يوليو ٢٠٢١)، بعد أن أعلنت أن معظم مضخَّات المياه سوف تتوقّف تدرّيجياً عن العمل في جميع أنحاء البلاد خلال الأسابيع الأربعة إلى الستة المُقبلة، بسبب التدهور السريع في الوضع الاقتصادي، وتنامي الأزمة النقديّة، والنقص في تمويل شراء المحروقات وغيرها من الإمدادات مثل الكلور وقطع الغيار. وذكرت موكو أن هناك حاجة إلى ما لا يقلّ عن ٤٠ مليون دولار سنوياً للاستمرار بتشغيل مؤسّسات المياه.
وتأتي هذه الأخبار بمثابة صفعة جديدة يتلقّاها هذا البلد المنكوب، وتضيف مشكلة جديدة إلى قائمة المشكلات التي تهدّد حياة المقيمين فيه.
في الواقع، يُواجه لبنان مجموعة أزمات ليست إلّا الانعكاس أو النتيجة المباشرة لعقود طويلة من سوء الإدارة تتحمّل مسؤوليّتها الحكومات المُتعاقبة، ولا يوجد مثالٌ أكثر تعبيراً عن هذه الحال بقدر ما يشهده قطاع المياه، خصوصاً أن الرابط بين الكهرباء والمياه راسخ علمياً وتقنياً، وهو ما يدركه المُقيمون في لبنان؛ إذ عند انقطاع التيّار الكهربائي، تتوقّف المضخّات عن العمل، بما يحول دون وصول المياه إلى بيوتهم، ما يجعلهم يلجأون إلى المولّدات الخاصّة جزئياً لضخّ المياه إلى الخزّانات.
تلعب الكهرباء دوراً رئيساً في إيصال المياه إلى المنازل على المستوى الوطني؛ عملياً، هناك حاجة للكهرباء لضخّ المياه من مصدرها إلى معامل معالجة المياه، ومن ثمّ لبدء عمليّة المعالجة؛ ولاحقاً لضخّها إلى الخزّانات، فضلًا عن الحاجة إلى الكهرباء لمُعالجة مياه الصرف الصحّي. وفقاً لدراسة حديثة أعدّها معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدولية التابع للجامعة الأميركية في بيروت، يُعدُّ نقص الكهرباء السبب الرئيسي لعدم تشغيل العديد من محطّات مُعالجة الصرف الصحّي في لبنان، بحيث جرت العادة على التخلّص من مياه الصرف الآسنة غير المُعالجة في الأنهار والمياه الجوفية، ما يتسبّب في تلويثها، وبالتالي رفع تكلفة استخدامها للحاجات المنزليّة.
أظهرت الدراسة، أن الكهرباء تستحوذ على أكثر من ثلث التكاليف التشغيليّة لمؤسّسات المياه الأربع. في الواقع، تعجز هذه المؤسّسات عن تغطية نفقاتها التشغيليّة بسبب الرسوم المُنخفضة المفروضة على الخدمات التي توفّرها، في حين أدّى الانقطاع شبه المستمرّ في التيّار الكهربائي في العديد من المناطق إلى إجبار بعض مؤسّسات المياه على الاعتماد على المولّدات الخاصّة العاملة على المازوت لتزويد منشآتها بالكهرباء. إلّا أن هذا الخيار فشل في حلّ المشكلة أيضاً، لأن لبنان يواجه أزمة محروقات تحدّ من قدرة الحصول على المازوت لتشغيل مولّدات الطاقة، بحيث دفع هذا الوضع بمؤسّسات المياه إلى إبلاغ المستخدمين خلال الأسابيع الماضية، بعدم قدرتها على توصيل المياه إليهم.
تزداد مشكلة قطاع المياه تعقيداً بسبب انهيار قيمة اللّيرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، لأن مؤسّسات المياه تجبي عائداتها من الاشتراكات المقوّمة بالليرة، إسوة بأي دعم قد تحصل عليه من الحكومة، وهو ما أثّر سلباً على قدرتها على صيانة منشآتها نتيجة عجزها عن شراء قطع الغيار والمواد الاستهلاكيّة لتشغيل منشآت معالجة المياه والتعامل مع مختبرات مراقبة جودتها، وقد انعكس ذلك على مرافق معالجة الصرف الصحّي الموضوعة في الخدمة. بالإضافة إلى ذلك، فضّل المقاولون الحدّ من خسائرهم ودفع الغرامات (باللّيرة اللّبنانية) المُترتّبة عن فسخ عقودهم مع مؤسّسات المياه بدلاً من الاستمرار بتقاضي بدلات خدماتهم بالليرة، وهو ما حدّ من قدرة مؤسّسات المياه على الحفاظ على شبكاتها، أو تنفيذ مشاريع إعادة التأهيل في بعض المرافق.
أمام هذا الواقع يبدو واضحًا أن الحكومة غير قادرة على دعم مؤسّسات المياه وتأمين الأموال اللّازمة لها لشراء المازوت وسداد احتياجاتها الماليّة. لكن لحسن الحظّ، تدخّل المانحون وأبرزهم “اليونيسف” والوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة، والوكالة الفرنسيّة للتنمية والاتحاد الأوروبي، لعدم السماح بانهيار قطاع المياه في لبنان، خصوصاً أنّهم شهدوا تبعات حالة مُماثلة في العراق سابقاً، حيث تجاوزت تكلفة إنعاش قطاع المياه التكلفة المطلوبة للاستمرار في تشغيل المنشآت القائمة.
مع ذلك، لا ينبغي توجيه كامل هذا الدعم لشراء المازوت والمواد الاستهلاكيّة وقطع الغيار، بل توظيفه بما يحقّق مرونة قطاع المياه ضدّ أزمات مُماثلة في المستقبل وضمان استمراريّة عمله. من هنا، يُعدُّ التحوّل إلى الطاقة المُتجدّدة في العديد من مرافق المياه أحد الاستثمارات المهمّة التي قد يقودها المانحون، لا سيّما أن “أي استثمار راهن في الطاقة المُتجدّدة سوف يقلّل النفقات المستقبليّة على المانحين، ويساعد قطاع المياه في لبنان في تقليل اعتماده على الوقود الأحفوري”.
“يُعدُّ التحوّل إلى الطاقة المُتجدّدة في العديد من مرافق المياه أحد الاستثمارات المهمّة التي قد يقودها المانحون.”
في هذا السياق، حدّدت الدراسة التي أجراها معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية، والمموّلة من الاتحاد الأوروبي، العديد من مرافق المياه والصّرف الصحّي الجاهزة لمثل هذا التحوّل، إلّا أن تكلفة تخزين الطاقة يشكّل أحد العوائق الرئيسيّة أمام هذا التحوّل. مع ذلك، تتناقص هذه التكلفة مع الوقت، ويتوقّع أن تصبح مجدية استثمارياً في الفترة المُقبلة، وبالتالي سوف يكون الدعم المقدّم من المانحين لاستثمارات مُماثلة خلال هذه الفترة أكثر فعاليّة وطويل الأمد بالمقارنة مع دعم شراء المازوت.
لذلك توجّه دعوة ملحّة إلى المانحين لمواصلة دعم جهود مؤسّسات المياه في لبنان للحفاظ على إمدادات المياه التي تصل إلى المُقيمين، وتضمين هذا الدعم إنشاء مرافق للطاقة المُتجدّدة على الأراضي المملوكة من مؤسّسات المياه والبلديات لتزويد قطاع المياه بالطاقة.
*- مُدير برنامج تغيّر المناخ والبيئة في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية، الجامعة الأميركية في بيروت
المصدر: النهار العربي