تتميز مرحلة الانتقال السياسي في حياة الدول والمجتمعات عمومًا بالاضطراب والتعقيد وعدم الوضوح والضبابية وغياب اليقين، كونها تمثِّل مرحلة يجري فيها بناء نظام جديد وتوازنات جديدة في مواجهة نظام قديم يحاول البقاء واستيعاب الهزات التي يتعرض لها، لذلك يستحيل أن يكون مسار الانتقال السياسي مسارًا خطيًا من دون تعرجات أو تراجعات، وهناك عوامل عديدة تؤثر في مسار الانتقال هذا؛ طبيعة نظام الحكم القائم ودرجة استبداديته وتغلغله في الدولة والمجتمع، وطبيعة الثقافة السائدة، وتاريخ البلد وتجربته السياسية والمؤسساتية، والبنى الاقتصادية والاجتماعية، والنخب الثقافية والسياسية، فضلًا عن طريقة ووسائل وآليات عملية الانتقال ذاتها من حيث كونها سلمية أو مسلحة، أو من حيث استقلاليتها أو تبعيتها لإيقاع التدخلات الإقليمية والدولية.
منذ انطلاق ثورات الربيع العربي في أواخر 2010 وأوائل 2011، ساد مصطلح “المرحلة الانتقالية” في خطاب وبرامج القوى السياسية، وأُنشئت منظمات ومؤسسات تُعنى بوضع الخطط والاستراتيجيات والتصورات المستقبلية بعد إسقاط الأنظمة الحاكمة، على المستويات كافة، السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية. على الرغم من مشروعية هذا الفعل وأهميته إلا أنه لم يأخذ في الحسبان، غالبًا، المرحلة التي تبدأ من لحظة انطلاق الثورة إلى لحظة رحيل النظام، أي المرحلة الثورية إن جاز التعبير.
أناقش هنا فكرة وجود مرحلتين انتقاليتين، تعتمد مسارات الثانية على مسارات الأولى ونتائجها ووسائلها بالضرورة، أو على الأقل الإقرار بأن المرحلة الانتقالية تتألف من مرحلتين؛ تبدأ الأولى من لحظة انطلاق الثورة، وتستمر إلى لحظة احتمالية هي لحظة رحيل رأس النظام، فيما تبدأ الثانية من اللحظة الاحتمالية هذه إلى اللحظة التي تظهر فيها أولى معالم الاستقرار في الدولة والمجتمع.
هذا الفهم أو التقسيم للمرحلة الانتقالية لم يكن شائعًا أو حاضرًا لدى الفاعلين السياسيين، وانتعش بدلًا منه الفهم الذي يحصر اهتمامه بالمرحلة الانتقالية التي تبدأ من لحظة رحيل رأس النظام. وهنا إذ نفرِّق بين فهمين للمرحلة الانتقالية، فإن هذا التفريق ليس شكليًا أو تقنيًا، بل هو تفريق بين نمطين من التفكير؛ الأول (المعنى الضيق) وهو الذي قاد عمليًا مسار الثورات، وفرض مفاهيمه وتصوراته وآلياته، ووصل إلى نهايات بائسة، فيما الآخر (المعنى الواسع) لم يستطع التأثير أو لم تكن له حظوظ في الواقع نتيجة سيطرة فريق (المعنى الضيق) على الوعي العام أو نتيجة كونه أكثر شعبية أو يعبِّر عن الوعي السائد. هذا التفريق بين المعنيين أو المفهومين واضح جدًا في الحالة السورية (والحالتين اليمنية والليبية)، فيما هو أقل وضوحًا في تونس ومصر بحكم الرحيل السريع لرأس النظام.
ارتكز أصحاب (المعنى الضيق) على معطى احتمالي، وهو رحيل رأس النظام، وتعاملوا معه بوصفه مؤكدًا ومحسومًا، بينما ارتكز أصحاب (المعنى الواسع) على معطى واقعي هو الثورة، ووضعوا رحيل رأس النظام في إطار الاحتمالات المفتوحة، أي التي قد تحدث أو لا تحدث استنادًا إلى حسابات استراتيجية، ولذلك يُعنى (المعنى الواسع) برسم سيناريوهات وممكنات أخرى استنادًا إلى تغيرات الواقع.
يعكس (المعنى الضيق) فهمًا أو أداءً انتظاريًا في العمل السياسي؛ يطلب من طرف ثالث أن يقوم بإسقاط النظام، وأن يضع معارضيه بدلًا منه في سدّة الحكم. بينما يطرح (المعنى الواسع) ضرورة بدء العمل من لحظة انطلاق الثورة، وفق رؤية وتحليل وخطة. يمكن القول أيضًا إن (المعنى الضيق) اتكالي، ويقامر بالاستقلالية سلفًا، فيما (المعنى الواسع) يبدو أكثر حرصًا على الاعتماد على الذات، ويدرك أن من سيحملك على ظهره، ويضعك في الحكم، سيتحكم في أدائك ومواقفك السياسية، الآن وفي المستقبل.
ارتباطًا بالنقطة الأخيرة، يعكس (المعنى الواسع) فهمًا عميقًا لضرورة تغيير ميزان القوى في الداخل، فيما ينحصر فهم ميزان القوى لدى (المعنى الضيق) في محاولة بناء علاقات خارجية تسمح بتحقيق هدف إسقاط النظام، وهذه غير مضمونة أو متبدلة، خاصة مع ضعف جبهة الساعين لها.
لذلك، سيكون (المعنى الواسع) مفتوحًا على التغير والحركة، بينما كان (المعنى الضيق) مغلقًا وغير قادر على التغيّر، لأنه عندما عدَّ سقوط النظام حتميًا انتحل خطابًا نهائيًا يقوم على إسقاط النظام الآن، ولا يستطيع إعادة إنتاج الشعار بطريقة تفيد تحقيقه على مراحل أو خلال مدة زمنية أطول نسبيًا، وربما بسبب ذلك كان (المعنى الضيق) شعاراتيًا في أدائه، بينما كان (المعنى الواسع) تفاوضيًا بالضرورة، لأن مسار الواقع قد لا يسير باتجاه رحيل رأس النظام خلال مدة قريبة، وبصورة حتمية.
يختلف المعنَيان أيضًا من حيث فهمهما للانتصار والهزيمة؛ يؤمن (المعنى الضيق) بالانتصار المطلق أو الهزيمة المطلقة، بينما يؤمن (المعنى الواسع) بإمكانية تحقيق الانتصار على مراحل، وباحتمالية حدوث الهزيمة على مراحل، وبكونهما (أي الهزيمة والانتصار) غير نهائيين. ينغمس أصحاب (المعنى الواسع) في العمل، ويعملون بدلالة الحاجة والواقع والأهداف، ولذلك تتوافر لديهم وتيرة مستمرة في العمل، لا ينفعلون بأي انتصار أو هزيمة، بينما يعكس فريق (المعنى الضيق) رؤية ظافروية تجزم بالانتصار قبل حدوثه، وتنفعل به، وتبني تفاؤلًا كبيرًا عليه مهما كان صغيرًا، ويُصاب أصحابه بالإحباط والانكسار عند كل لحظة تتغير فيها العلاقات الدولية وموازين الواقع في غير مصلحتهم، ولذلك يكون عملهم موسميًا استنادًا إلى التفاؤل والتشاؤم، ويفتقدون إلى وتيرة مستمرة وتراكمية في العمل.
يُدرك فريق (المعنى الواسع) ثقل العقبات والمعوقات الواقعية أمام الأهداف المأمولة، وهذا يعكس تفكيرًا مركبًا ومعقدًا، فيما يعتقد فريق (المعنى الضيق) أن العقبات تُحلُّ بسقوط رأس النظام، مفتقدًا إلى إدراك ثقل الثقافة السائدة والدين والأمية والمصالح الدولية في المنطقة، وإسرائيل، وطبيعة النظام الحاكم، وهذا يعكس تفكيرًا تبسيطيًا. فالنظام السوري ليس هو العقبة الوحيدة أمام الانتقال الديمقراطي، وإن كان العقبة الأشد ضراوة، أو العقبة المركزية، فهناك عقبات أخرى تتمثل بالمجتمع الأهلي والقوى الأيديولوجية الدينية، وغيرها من القوى المجتمعية والاقتصادية التي لا تجد لها مصلحة في التغيير. لذلك، لا بدّ من تخفيف حدّة التفاؤل المبني على اليقين ببناء نظام ديمقراطي متماسك بعد الثورات في بلدان شمولية ومتأخرة مثل سورية. تفيد قراءة اللوحة باتساع وشمولية في عدم التهوين من مشكلاتنا، وفي بذل الجهد على مستويات أخرى، وبناء التحالفات التي تتوافق مع المصلحة الوطنية، لا أن تبنى على أساس العداء للنظام السوري فحسب، وترك التفكير في الانتقال الديمقراطي الذي يحتاج إلى ديمقراطيين إلى ما بعد رحيله.
ولذلك، عندما أرغمت القوى الإقليمية والدولية وموازين القوى الواقعية فريق (المعنى الضيق) على الذهاب في اتجاه التفاوض، اكتشف عدم وجود أي شيء بين يديه يستطيع الضغط أو التفاوض على أساسه سوى قرارات الشرعية الدولية، ومجموعة من الفصائل العسكرية غير المرغوبة من العالم، فضلًا عن أن الانتقال إلى ضفة التفاوض له متطلباته الأخرى التي لن يستطيع إنجازها وفق منطق العقل الضيق، بل سيكون في حاجة إلى الأسس والمفاهيم التي تشكل أساس ومرتكز (المعنى الواسع).
المصدر: المدن