تتجه الأمور نحو تصاعد حدة المواجهة حول سوريا وملف تسوية الأزمة السورية بين روسيا والغرب عموما، وروسيا والولايات المتحدة بصورة خاصة، وذلك بعد أن أعلنت الأولى وبوضوح عن سوريا قاعدة عسكرية متقدمة لها، بطابع استراتيجي لجهة الموقع والتسلح، تحدّ من خلالها تحركات القوات الأميركية في المتوسط.
وفي موازاة ذلك تصر روسيا سياسياً على محاولاتها لاعادة تأهيل نظام بشار الأسد، لكن فقط لأنه الضامن الأكثر موثوقية بالنسبة لوجودها العسكري في سوريا، وتوسيع هيمنتها على قطاعات في الاقتصاد السوري مقابل دعمها له. مع ذلك يبدو أنها تحسب الحساب أيضاً للاحتمالات “الأسوأ”، وتعمل على تهيئة أرضية قانونية تساعدها على ضمان مصالحها حتى لو رحل الأسد.
ولا شك أن التحركات العسكرية الروسية عبر سوريا في المتوسط، فضلا عن تحدي موسكو للمجتمع الدولي بأسره في موضوع المساعدات الإنسانية للسوريين في المناطق التي لا تخضع لنظام دمشق، سيثيران ردود فعل سلبية في الغرب، وقد يدفعان الولايات المتحدة إلى انخراط أكثر نشاطا وفعالية في الشأن السوري، قد يترتب عليه تغير جذري في تعاطي واشنطن مع مصير النظام السوري.
وفي الوقت الذي تبدو فيه وكأنها أدركت خيبة آملها باحتمال تحول نوعي إيجابي في علاقاتها مع الغرب، إن كان مع الاتحاد الأوروبي أو مع الولايات المتحدة على حد سواء، ومع استمرار التوتر سياسيا وعسكرياً في تلك العلاقات، أعلنت روسيا عن بدء مناورات عسكرية في شرق المتوسط، عنوانها الرئيسي “التدرب على ضمان أمن القاعدتين الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس”.
وكان لافتاً أن وزارة الدفاع الروسية ركزت في بيانها حول تلك المناورات، على الإشارة إلى أنه أولا: تم لأول مرة نقل مقاتلات من نوع “ميغ 31 كا” القادرة على حمل صواريخ “كينجال” الفرط صوتية، أو (النسخة الجوية من منظومة اسكندر) إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية في سوريا. ثانياً: ستقوم تلك المقاتلات بالتدريبات مع القاذفة بعيدة المدى “تو- 22 إم3” القادرة على حمل سلاح نووي. ثالثا: تشارك في المناورات أيضاً فرقاطتين وغواصتين، جميعها مزودة بصواريخ كاليبر (كروزوفق التصنيف الغربي).
عبر هذه المناورات أكدت روسيا صراحة، ما كان واضح أساساً منذ أن تدخلت عسكريا لدعم نظام الأسد، أن الهواجس السورية آخر ما يقلقها، وأنها وجدت في استعداد الأسد منحها امتيازات لا محدودة على الأراضي السورية، مقابل دعمها لنظام حكمه، فرصة ثمينة يجب استغلالها لتكون سوريا قاعدة عسكرية ذات طابع استراتيجي، تستغلها في معركتها مع الغرب من أجل بناء نظام عالمي جديد، يعترف بها كقوة دولية يجري التعامل معها على أساس “الندية”.
وبالنظر إلى السياق الراهن للمناورات الروسية شرق المتوسط، فإنها جاءت في وقت يشهد مستويات غير مسبوقة من التوتر في العلاقات مع الغرب عسكرياً، على خلفية الاستعدادات لمناورات “سي برايز” في البحر الأسود، التي تنظمها الولايات المتحدة بالتعاون مع أوكرانيا، وستنطلق الاثنين 28 حزيران/يونيو وتستمر لغاية 10 تموز/يوليو، بمشاركة 5 آلاف عسكري، و32 قطعة بجرية، و 40 طائرة ، من 32 دولة من جميع القارات، وفق ما أعلن الأسطول الأميركي السادس، الذي أكد أيضاً مشاركته فيها. كما تشارك في تلك المناورات قوات البحرية الملكية البريطانية، ولهذا الغرض دخلت مجموعة سفن على رأسها حاملة الطائرات “الملكة إليزابيث” مياه المتوسط مؤخراً. وكانت المدمرة “ديفيندر”، التي اعترضتها القوات الروسية عند مرورها قرب القرم في مياه البحر الأسود، ضمن مجموعة سفن “الملكة إليزابيث”.
وأثارت هذا المناورات مستويات غير مسبوقة من القلق لدى جميع مؤسسات السلطة في روسيا، عبرت عنها لهجة تصريحات المسؤولين الروس، التي ركزت على التذكير بأن المناورات تجري بالقرب من منطقة النزاع في دونباس جنوب –شرق أوكرانيا، وبالتالي وصفها بأنها “استفزاز مسلح مباشر لروسيا”. ورأت موسكو في المناورات غطاءً لتزويد أوكرانيا بالسلاح، وقال مسؤولون روس إن “بعض الأسلحة المستخدمة في المناورات ستستقر في أوكرانيا وتستخدم في الصراع في دونباس”، وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية إن الناتو سيزود أوكرانيا بأسلحة حديثة تحت غطاء المناورات، وأنه سيتم نقلها لاحقا إلى القوات الأوكرانية في دونباس، وهدد بأن القوات الروسية ستتابع سير المناورات عن كثب وسترد بالشكل المناسب إذا لزم الأمر.
ولما كان بقاء نظام الأسد خير ضامن لحفاظ روسيا على سوريا قاعدة استراتيجية لها في سياق المواجهة مع الغرب، ولتحصيلها النتائج الاقتصادية كاملة مقابل دعمها له، كثّفت روسيا بشكل واضح، وصعدّت، نشاطها الذي تأمل أن تنجح من خلاله في إعادة تأهيل هذا النظام دولياً، مستغلة ملف المساعدات الإنسانية. والآن مع اقتراب انتهاء تفويض العمل عبر معبر باب الهوى، الوحيد المتبقي لنقل المساعدات الدولية إلى السوريين، أكد المجتمع الدولي على ضرورة تمديد العمل لهذا المعبر لمدة عام، واستئناف العمل عبر المعبر على الحدود مع العراق، بعد أن تسبب الفيتو الروسي بإغلاقه ومعه معبرين آخرين.
في المقابل تقف روسيا، حتى الآن على الأقل، بشدة ضد التمديد، وتضع جملة شروط، ترمي منها إلى دفع المجتمع الدولي للحوار مع الأسد تحت غطاء “الوضع الإنساني”. إذ تصرّ على إيصال المساعدات إلى جميع المناطق السورية عبر النظام السوري، بذريعة ضرورة احترام السيادة. وذهب وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف إلى تحميل الغرب المسؤولية عن المأساة الانسانية في سوريا، واشترط للتعاون في هذا الملف أن “يعترف الغرب بمسؤوليته” عنها، فضلاً عن جملة شروط الهدف منها أولا فسح المجال أمام سيطرة روسية مطلقة على جميع الأراضي السورية، لاسيما المناطق النفطية، والتمهيد بذريعة تهيئة ظروف لعودة اللاجئين، للحصول على تمويل إعادة الأعمار بغض النظر عن التسوية السياسية.
وفي حال أصرت روسيا على موقفها واستخدمت الفيتو مجدداّ ضد تمديد عمل المعبر الإنساني الأخير المتبقي للسوريين خارج مناطق النظام، فإن هذا الموقف الذي سيغضب الدول الغربية، قد يدفع الولايات المتحدة ودول أخرى إلى اعتماد آليات أخرى لإيصال المساعدات، من دون الاكتراث بالفيتو الروسي، ما سيؤدي بشكل عام إلى تصعيد كبير بين موسكو وواشنطن حول الأزمة السورية، يرجح أنه سيحمل تداعيات جدية على نظرة واشنطن إلى نظام الأسد.
كما سيؤثر على مصير النظام كذلك، رد الفعل الأميركي على تحويل روسيا لسوريا إلى قاعدة مواجهة متقدمة في منطقة حساسة للهيمنة الأميركية، مثل البحر المتوسط. ومن غير المستبعد أن تذهب الإدارة الأميركية نحو خطوات أكثر تأثيراً ضد نظام الأسد، لزعزعته وربما الإطاحة به، كي تتفرغ بعد ذلك للحد من النفوذ الروسي في المنطقة. ويبدو أن روسيا تأخذ بالحسبان جميع الاحتمالات، لذلك كان لافتاً أنها أوفدت نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف إلى دمشق، ليحثّ الأسد على إنجاز الاتفاقية الاقتصادية الحكومية الروسية-السورية، والتي يبدو أنها تمثل ضمانة لمصالح روسيا في الاقتصاد السوري، وستكون، حالها حال اتفاقيتي قاعدة حميميم وميناء طرطوس، ملزمة لأي حكومة سورية.
المصدر: المدن