هناك مؤشّرات قوية تفيد بأن العودة إلى الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة باتت وشيكة، وقد تحصل قبل رحيل إدارة الرئيس حسن روحاني. فإيران تريد رفع العقوبات الاقتصادية كيفما اتفق، بسبب تأثيرها المدمّر على اقتصاد البلاد، ولأن بقاءها بات يمثل تهديداً للنظام الذي اختبر شرعيته الأسبوع الماضي عندما قاطع أكثر من نصف الإيرانيين (سكان المدن خصوصاً) الانتخابات الرئاسية، فيما أدلى أكثر من ثلاثة ملايين منهم بأوراق بيضاء، تعبيراً عن احتجاجهم على “هندسة” الانتخابات، ولكن أيضاً على الأوضاع المعيشية والعزلة التي تعيشها البلاد. ومن جهة ثانية، تريد الولايات المتحدة العودة إلى الاتفاق، لأنها تخشى من أن تتمكّن إيران، في غياب رقابة دولية، يؤمنها الاتفاق، من بلوغ “العتبة” النووية، ما يعني حرباً ستنجرّ إليها الولايات المتحدة، فيما هي تريد التركيز على احتواء صعود الصين. هذا يفسّر أيضاً محاولات واشنطن لوقف الحرب في اليمن، والضغط على السعودية للدخول في حوار مع إيران، ودورها الخفي في إطاحة حكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل، وسعيها إلى تخفيف التوتر في الإقليم عموماً. تخفيف التوتر يحدّ أيضاً، بحسب واشنطن، من تغلغل خصميها، روسيا والصين، في منطقةٍ ما زالت حيوية للمصالح الأميركية، وهي قلقة خصوصاً من التقارب الصيني – الإيراني الذي بلغ ذروته بتوقيع معاهدة التعاون الاستراتيجي بين البلدين في شهر مارس/ آذار الماضي.
لكن الولايات المتحدة تواجه تحدّياً صعباً هنا، ذلك أن إحياء الاتفاق النووي يمكن أن يحلّ مشكلة أميركية، بمعنى أنه يمنع حرباً مع طهران بموافقة هذه الأخيرة، حال العودة إلى الاتفاق، على آلية رقابة دولية (أميركية فعلياً) على برنامجها النووي، لكنه لا يحلّ مشكلة حلفاء واشنطن، ولا يُعَدّ بالتالي كافياً لتحقيق الاستقرار في المنطقة، من دون التعامل مع برنامج إيران الصاروخي وسياساتها الإقليمية. فبرنامج إيران الصاروخي، بالنسبة إلى هؤلاء، أخطر من برنامجها النووي، لأن السلاح النووي، بعكس الصواريخ، سلاح ردع وليس سلاحاً هجومياً، ولم يُستخدم إلا مرة واحدة منذ تطويره (ضد اليابان خلال الحرب العالمية الثانية). ينطبق الأمر على سياسات إيران الخارجية ومساعي هيمنتها الإقليمية.
تدرك إدارة بايدن أن التوتر في المنطقة واحتمالات المواجهة فيها ستظل قائمةً، ما لم يجرِ التعامل مع هذين الأمرين، وهي لهذا تحاول طمأنة حلفائها إلى أن إحياء الاتفاق النووي ليس سوى مرحلة أولى، تتلوها مرحلة أخرى، تتعامل فيها المفاوضات مع برنامج إيران الصاروخي وسياساتها الإقليمية. ولكن الجميع يدركون أنه لن تكون هناك مرحلة أخرى، بمجرّد رفع العقوبات عن طهران، فالعقوبات أداة واشنطن الوحيدة للضغط على إيران. وبمجرّد رفعها، لن يبقى هناك حافز يدفع إيران إلى مناقشة سلوكها الإقليمي وبرنامجها الصاروخي. ولكن، في المقابل، إذا لم تُرفع العقوبات، لن تقبل إيران العودة إلى الاتفاق النووي. لهذا السبب، تأخرت المفاوضات وتعقدت، فواشنطن تريد رفعاً جزئياً للعقوبات، لتحتفظ ببعض أدوات التأثير على طهران، لجرّها إلى طاولة مفاوضات جديدة. وإيران تدرك ذلك، وتصرّ بسببه على رفع كل العقوبات، لأنها لا تريد التفاوض على شيء خارج إطار البرنامج النووي.
كيف يمكن حل هذه المعضلة؟ وهل هي قابلة للحل أصلاً؟ ممكن، بشرط أن تقتنع النخب الحاكمة في المنطقة بأن الصراع لم يؤدّ إلا إلى تدمير المنطقة وتفكيك دولها، وأن استمراره سيأتي على ما بقي منها، وأن أحداً لن يكون في مأمنٍ من تداعياته، فجميع دول المنطقة تعاني هشاشةً من الداخل، مهما بدت عليها مظاهر القوة والتماسك من الخارج. لقد عبّر الإيرانيون، بطريقتهم، الأسبوع الماضي، عن التعب من استمرار هذه الحال، والعرب تعبوا أيضاً منها ودفعوا ثمناً باهظاً لها. وربما حان الوقت لعقد مؤتمر سلام إقليمي، يجمع الكتل الحضارية الكبرى في المنطقة، العرب والفرس والأتراك، لوضع حد لعملية التدمير الذاتي التي يقومون بها بحق شعوبهم ومنطقتهم. ويمكن أن تشكّل إدارة بايدن عنصراً مفيداً، بهذا المعنى. فهي، من جهة، تسعى إلى تبريد صراعات المنطقة تسهيلاً لخروجها منها (وهو مطلب إيراني بالمناسبة، وتركي إلى حد ما) وتبدو مستعدّة، من جهة ثانية، لكبح جماح إسرائيل عن خوض أي مغامرةٍ تؤدي إلى تفجير المنطقة. هذا طرحٌ قد يستحق بعض التفكير.
المصدر: العربي الجديد