أعتقد أن إدارة أي صراع سياسي كبير ووجودي غير ممكنة دون إدراك أبعاده الكلية وخلفيته التاريخية حتى لو كان فيها إطالة واستطرادات متشعبة، فبدونها لا يمكن تشكيل رؤية استراتيجة تحيط بكل جوانبه وتستطيع استشراف آفاق مستقبله.
لنبدأ الحكاية من بدايتها الحقيقية، وهي بداية الثورة الصناعية التي ابتدأت مع مطلع القرن السابع عشر في أوربا الغربية التي أدت خلال عقود إلى تراكم فائض كبير من الثروة والقوة لدى أقطابها الرئيسية وانتهى مع بداية القرن الثامن عشر بتشكل مشروع أوربي قائم على أسس أهمها الإيمان بتفوق العنصر الأبيض وأحقيته باستعمار دول العالم الأخرى ونقل الصراع السياسي والعسكري بين أقطابها إلى صراع على الدول الاخرى، و بالتالي نقل مسرح الصراع من أوربا إلى خارجها وبدأت تتشكل رؤية استراتيجة لأمن أوربي مشترك رغم التناقضات والعداء والتنافس.
في تلك الفترة بدا هناك ما يشبه التوافق بين المحللين الاستراتيجيين الأوربيين بأن من يستطيع السيطرة على الزاوية الجنوبية الغربية لساحل المتوسط الممتدة من خليج اسكندرون إلى طبرق يستطيع تهديد أمن أوربا في العمق ويمهد له طريق السيطرة على العالم.
وحيث أن هذه المنطقة كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية فعلاً، لكنها دولة في طور الأفول من وجهة النظر الغربية آنذاك، و يجب إيجاد معادلة متوازنة لاقتسام تركتها وهي ما عرفت باسم “المسألة الشرقية” التي هيمنت على ملفات السياسة الخارجية الأوربية.
وفي نفس الوقت بدأت تهيمن على ملفات السياسات الداخلية الأوربية مسألة أخرى، كانت تسمى “المسألة اليهودية” مع نشوء حركات ومنظمات يهودية أعلنت تمردها على نظم التمييز والغيتوهات مما شكل بؤر توتر تهدد بتفجير الدول الأوربية من الداخل.
وكانت الرؤيا المشتركة المتوافق عليها أوربيًا أن يتم تفريغ القارة من الوجود اليهودي بشكل طوعي وسلمي بدل الدخول في متاهات الحلول الأخرى.
في هذا الخضم جاء رجل مغامر يعد من أهم المخططين الاستراتجيين في عصره وهو الضابط الشاب نابليون بونبرت ليحدث اختراقًا مفاجئًا بإعداده حملة كبيرة للسيطرة على أهم بقعة استراتيجية على الخريطة من وجهة نظره وهي مصر “أم الدنيا”. وقد أرادها حملة صادمة للغرب المنافس الذي فوجيء بسرعتها وجرأتها وللشرق الذي صدم من اكتشاف الهوة الكبيرة من التقدم العلمي والتكنولوجي والتنظيمي.
وقد كان بونبرت مدركًا لما يفعله وما يصبوا إليه من تأثير باصطحابه مجموعة كبيرة من العلماء والأثريين والأدباء والصحفيين.
كانت الحملة الفرنسية بحق أكبر صدمة سياسية وحضارية زلزلت المشرق بأسره من القاهرة إلى طهران واستمر تأثيرها أمدًا طويلًا.
وبعد أن استتب الأمر لحكم نابليون الاستعماري في مصر مؤقتًا بدأ في دراسة جدية للمحافظة على أمنها. و من خلال دراسته هذه، ونظرته الاستراتيجية تأكد له ارتباط أمن مصر ارتباطًا عضويًا بالحجاز وبلاد الشام أكثر بكثير من ارتباطها بالمغرب والجنوب. وتأكد له من دراسة تاريخ المنطقة أن ما من أحد سيطر على الشام إلا سعى للسيطرة معها على مصر والعكس بالعكس من أيام الآشوريين إلى العثمانيين، وكل من نجح في ذلك نجح في السيطرة على المنطقة كلها وأحيانًا على العالم بأسره.
لكن نابليون العنيد أراد مقارعة التاريخ والجغرافيا في آن معًا. فوضع خطة استراتيجية لعزل مصر عن محيطها العربي بالأخص الشام ولذلك اقترح خلق حاجز مائي يربط البحر الأبيض بالبحر الأحمر يشكل فاصلًا جغرافيًا و مانعًا عسكريًا يعيق أي غزو من ناحية الشرق وعكف العلماء الفرنسيون المرافقون للحملة على دراسة هذا المقترح بجد، لكن معطيات عصره العلمية والتكنولوجية لم تكن تسمح بتنفيذه، بالأخص أنه لم يتم التفكير في الجدوى الاقتصادية للمشروع كما فعل دليسبس بعد عقود.
كذلك فكر نابليون أن يخلق كيانًا غريبًا أو مختلفًا يشكل كتلة بشرية مناقضة للكتل العربية المتواجدة في الشرق والكتلة المتواجدة في مصر والتي تشكلت بينها أواصر ثقافية واجتماعية راسخة لا يمكن زعزعتها بسهولة.
لم يكن لدى نابليون أي تصور واضح لماهية هذا الكيان المقترح ولكن الأقرب إلى ذهنه أن تكون ماهيته إفريقية وثنية بنقل كتلة بشرية كبيرة من الجنوب إلى صحراء سيناء لتكون بمثابتة سدادة القارورة.
أما المحور الثالث من خطته الاستراتيجية فكان زعزعة الانتماء العربي والاسلامي لمصر بالبحث عن الحضارات البائدة قبل دخول الاسلام إليها. وقام الأثريون المرافقون بجهود جبارة في هذا السبيل أدت إلى اكتشافات مذهلة ومهمة للبشرية قاطبة “وأن تكون نواياه غير شريفة أو إنسانية” إضافة لذلك سعى لنشر الثقافة الفرنسية فيها بزخم كبير.
لم تستمر حملة نابليون الصاعقة فترة طويلة حيث استطاع الانجليز هزيمة الفرنسيين واحتلال مصر عام ١٨٠٣. لكن الغريب أن الانجليز قد اعتمدوا خطة نابليون الاستراتيجية بكليتها مع ربطها بالخطة الاستراتيجية للامبراطرية الناشئة التي كان أساسها حماية وتأمين خط التجارة من وإلى الهند درة التاج البريطاني.
خلال هذه العقود استمرت في أوربا مناقشة معضلتي المسألة الشرقية خارجيًا والمسألة اليهودية داخليًا إلى أن جاء ديزرائيلي، وهو أول رئيس وزراء بريطاني من أصل يهودي وهو أول من اقترح أن يدمج حل المسألتين وبالتوافق مع خطة نابليون بخلق كيان غريب يعزل مصر ويشكل تهديدًا دائمًا لها ولكنه غير المقترح ليكون مكانه فلسطين وماهيته دولة يهودية تستقطب يهود أوربة والعالم.
حتى تلك الفترة من أواسط القرن الثامن عشر لم تكن الأغلبيات االساحقة في الحركات والمنظمات اليهودية في أوربا مقتنعة بفكرة إقامة دولة يهودية وكانت تفضل استمرار المطالبة بالمواطنة المتساوية ضمن إطار الدول والمجتمعات الأوربية. وحتى الأقليات التي كانت تنادي أو تقترح إقامة دولة يهودية صدمت من طرح ديزائيلي! وقالوا ما يكاد يكون تكرارًا لما قاله أسلافهم للنبي موسى عليه السلام: “إن فيها قومًا جبارين. ولن ندخلها حتى يخرجوا منها”
فكل المقترحات للدولة اليهودية حتى تلك الفترة كانت تحبذ إقامتها في منطقة من العالم الجديد بعيدة عن الصراعات والصدام مع أصحاب الأرض المقترحة للمشروع. لذلك كانت وجهتها المفضلة هي الارجنتين أو استراليا. ولم تكن فلسطين واردة في أدبياتها صراحة.
كذلك فإن الدول الأوربية الأخرى رفضت طرح ديزرائلي وخشيت أن يحدث هذا الاقتراح المستفز صدمة كهربائية تعيد النبض لقلب الامبراطورية المريض وأن يكون حافزًا لإعلان النفير العام والجهاد المقدس مما قد يدمر المخططات الأوربية وربما يهدد أمنها في عقر دارها أيضًا. ورغم أن ديزرائيلي قد بذل جهودًا جبارة في إقناع الدول الأوربية والمنظمات اليهودية في تبني طرحه لمشروع دولة يهودية في فلسطين لم تجد نفعًا خلال حياته التي انتهت ١٨٨١
لكن مجموعة من الشباب الجديد في الحركات اليهودية قد التقط الفكرة وآمن بها، أبرزهم تيودور هرتزل، وقد استطاعوا بجهود حثيثة متواصلة إحداث تغيير كبير نتج عنه تبلور الحركة الصهيونية التي حسمت الجدل بأنه لا يمكن الخلاص من عداء السامية في أوربا إلا بإقامة وطن قومي لليهود خارجها.
رغم ذلك وحتى عام ١٨٩٥ الذي أصدر فيه هرتزل كتابه الأشهر بعنوان “الدولة اليهودية” لم يذكر فيه صراحة فلسطين وإن كان فيه تلميحات واضحة اتجاهها على نحو ذكر مواصفات الوطن القومي بأنه يجب أن يكون له ارتباط عاطفي وتاريخي مع الشعب والدين اليهودي .
لقد كان لنشاط هرتزل وعزمه الكبير وكتابه الشهير أثرًا كبيرًا في تمحور الحركات والمنظمات الصهيونية حول شخصه ومشروعه. ومهد السبيل للدعوة إلى مؤتمر جامع لتوحيد الحركة الصهيونية في مدينة بازل السويسرية ١٨٩٧ وقد انتخب هرتزل رئيسًا للمؤتمر وكلف بالتواصل مع القيادة العثمانية لمناقشة فكرة تسهيل إقامة الدولة اليهودية في فلسطين مقابل دفع تعويضات مالية كبيرة تساعدها في تسديد ديونها المتراكمة.
ورغم فشل المحاولة الأخيرة مع السلطان عبد الحميد في ١٩٠١ فقد كان لها بالمقابل أثرًا معنويًا كبيرًا على مسار الحركة الصهيونية ومشروعها. فقد مرت الفكرة ووصلت حتى رأس الدولة دون رد فعل عاصف كما كان متوقعًا من بعض المتخوفين من الدول والأحزاب الأوربية.
عاد هرتزل منتشيًا لجولة جديدة واسعة لإقناع الدول الأوربية بأهمية وإمكانية إنشاء المشروع المزعوم، وانتهى به المطاف للاستقرار في لندن “منبع الحلم” لإقناع حكومتها الجديدة بتبني المشروع رسميًا. لكنه رحل قبل أن تحصل الحركة الصهيونية على وعد بلفور ١٩١٧.
المصدر: اشراق