مرة أخرى تشهر السعودية سلاحها الاقتصادي المخيف (النفط) في وجوه أعدائها لأغراض متعددة اقتصادية وسياسية، في مقدمتها إظهار قوتها على الساحة الدولية كلاعب مؤثر.
في 1973 حظرت تصدير النفط الى أميركا وبريطانيا وهولندا، ردا على سياستها المؤيدة لإسرائيل، وتبعتها الدول العربية المصدرة للنفط، حتى اضطر وزير الخارجية المتغطرس هنري كيسنجر للتوسل للسعودية، وأخذت الدول الأوروبية تعلن تخليها عن اسرائيل وتأييد العرب. وعندما رفض الملك فيصل الإذعان، توسل الى أنور السادات لرفع الحظر، ولم يرفع إلا بعد ستة شهور بناء على طلب السادات. وحتى اليوم ما زالت أوروبا تذكر تلك الحادثة، وأذكر أن صحيفة سويدية وضعت قبل سنوات قليلة في ذكرى قطع النفط العربي على الدول الثلاث عنوانا عريضا (يوم ارتجفت أوروبا من البرد)!
وفي نهاية القرن الماضي عادت السعودية لإشهار سلاحها في وجه إيران هذه المرة، فزادت انتاجها لإسقاط الأسعار، مما الحق بإيران خسائر باهظة، أوهنت صمودها في وجه العقوبات الدولية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي.
وفي عام 2014 عادت المملكة لإشهار سلاحها ضد ادارة أوباما التي زادت انتاجها من الزيت الصخري دون اكتراث بخسائر اوبك، واستطاعت اجبار اميركا على التراجع أيضا، لأن كلفة الانتاج في أميركا عالية، وهبوط الاسعار يجعلها تخسر بينما كلفة استخراج النفط في السعودية أقل كثيرا!
في بداية العام الجاري بدأت السعودية حربا على روسيا، فرفعت انتاجها وأغرقت الأسواق، فانهارت الأسعار بمعدلات قياسية بلغت حافة العشرين دولارا (حاليا)، وبلغ الانتاج اليومي 12 مليون برميل، وأعلنت عزمها على مواصلة زيادة انتاجها ليصل 13 مليون برميل في أبريل القادم مما يسبب خسائر كبيرة لروسيا!
كانت السعودية التي تقود ( أوبك ) تنسق دائما مع روسيا غير العضو ،كحليف من خارج المنظمة ، لتأمين استقرار الأسعار في السوق الدولية ، لكن بوتين الذي نجح بجعل روسيا اكبر مصدر نفط عام 2018 ، ثم خسر المركز في 2019 لصالح اميركا ، أراد استعادة مركزه ، ورفض التعاون مع السعودية واوبك العام الحالي ، فاصطدم بطموح السعودية التي تسعى أيضا لاستعادة مركزها ، كثاني أكبر مصدر نفظ ، فضلا عن خلافات غير معلنة ، تتعلق بسياسة موسكو في الشرق الاوسط والخليج المؤيدة لإيران وسياستها المعادية للسعودية ، خصوصا رفض ادانة اعتداءاتها الارهابية العام الماضي .
هذه خلفية الحرب البترولية الحالية بين السعودية وروسيا، إذ تريد المملكة تأديب روسيا، واجبارها على الرضوخ لإرادة اوبك في تسعير النفط. وانضمت دولة الامارات للمواجهة، وزادت انتاجها الى أربعة ملايين برميل يوميا، وستصل الى خمسة ملايين في ابريل، ذلك أن الاسباب المعلنة والخفية التي حفزت السعودية على مواجهة روسيا التي تعاني من وضع اقتصادي صعب وشح في موارد العملة الأجنبية، وبحاجة ماسة لرفع اسعار النفط، تتشارك فيها مع الامارات التي تتعرض لتهديد إيران المدعومة روسيا.
ولعبت الاقدار دورا مفاجئا، إذ أدى ظهور (كورونا) في العالم الى بداية انكماش اقتصادي، ودفع أكبر اقتصادات العالم الى أزمة غير مسبوقة بسبب موت السياحة، وتوقف الشركات العملاقة عن الانتاج، وخسارة الدول كثيرا من مواردها، وتراجع الحاجة للطاقة، فساهمت في انهيار اسعار النفط.
روسيا اليوم تعبر عن أسفها لما حصل، وتبدي ندمها، وقال الناطق الرسمي باسم الكرملين إن بلاده تريد العودة للتعاون مع اوبك والسعودية لتثبيت الاسعار.. وكأنها تمهد لرفع الراية البيضاء!
يقول المحللون إن قوة الرياض تأتي من قدرتها على تحمل نتائج تخفيض الاسعار، لأن كلفة الانتاج عندها اقل ب 50%من بقية المنتجين في العالم. وتبني استراتيجيتها الهجومية على خيار الخسارة في المدى القصير، لتحقيق مكاسب كبيرة على المدى الطويل، وتعزيز مركزها السياسي والاقتصادي على الساحة الدولية.
المصدر: مجلة الشراع اللبنانية