في طريق عودة الاتفاق “الكارثي”

سميرة المسالمة

تبقى العلاقات الأميركية – الإيرانية المحطة الأهم في السياسة الخارجية للرئيس الأميركي جو بايدن، إذ بدأها من المكمن الذي أجّج الخلافات، بفتح مسار “الطريق الطويل للمحادثات” بحسب تصريح بايدن نفسه، ووضع مصير مختلف للاتفاق النووي الإيراني الجديد عن سابقه، الموقّع عليه عام 2015 في ظلّ حكومة الرئيس الديمقراطي السابق، باراك حسين أوباما، وذلك لرسم ملامح مسار يختلف عن تصوير الواقعة أنّها مجرّد خطوة إلى الوراء، أو إلى ما قبل قرار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب (8/ 5/ 2018) انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، والذي وصفه آنذاك “بالكارثي” وإعادة فرض العقوبات الاقتصادية على النظام الإيراني، مميزاً، خلال إعلانه عن ذلك، بين الحكومة والشعب، أنّ “الإيرانيين يستحقون حكومة تحقق أحلامهم وتحترم تاريخهم”. وما زالت المحادثات الجارية في فيينا ضمن سياق مرحلتها الأولى، كما كان الحال قبل الاتفاق.

تحقيق انتصار لمصلحة أيّ من الطرفين على طاولة التفاوض يحتاج عوامل قوة مؤثرة لكل منهما على الآخر، فبينما انتهجت إيران التصريحات الإعلامية وسيلة ردع لتخفيف آثار العقوبات التي أدّت إلى انهياراتٍ متلاحقةٍ في الاقتصاد، كان في مقابل ذلك ثمّة للولايات المتحدة أوراقٌ عديدة تستخدمها لإضعاف موقف إيران واستنزافها من مختلف النواحي، منها ورقتا العزل السياسي والعزل الاقتصادي، كما ثمّة ورقة الضربات العسكرية المباشرة وغير المباشرة، لا سيما عبر إسرائيل. ولم ينتهِ هذا الأمر مع رحيل إدارة ترامب، كما ظهر في الضربات المباشرة وغير المباشرة الأميركية والإسرائيلية الموجهة ضد إيران في الأشهر أو الأسابيع الأخيرة.

يمكن الحديث، من جهة إيران، عن ملاحظتين: أولاً، لا يمكن لها، وفقا لإمكاناتها الاقتصادية والعسكرية، أن تذهب إلى النهاية، أو أن تجتاز العتبة التي تدخلها في صراعٍ مباشرٍ لا مع أميركا ولا مع إسرائيل، لأنّها تعرف أنّ ذلك سيدفّعها أثماناً باهظة، ما يفسّر عدم قيامها بأيّ رد على الضربات الأميركية والإسرائيلية الموجعة التي وجهت إليها طوال الأعوام الماضية. ثانياً، إنّها تنتهج في ردّها استراتيجيتين: الأولى، تتمثل بامتصاص الضربات الأميركية والإسرائيلية. والثانية، تتمثل باستخدامها الأذرع المليشياوية التابعة لها في المنطقة في العراق وسورية ولبنان واليمن.

مع ذلك، فالمهادنة الأميركية سواء بالتصريحات، أو حتى في الدخول إلى نفق المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني، يمكن أن يُحتسبا، من وجهة النظر الإيرانية، خطوة على طريق حصد الانتصار، وهو ما لم تبدّده التصريحات الأميركية، الأمر الذي يمكن توظيفه في الملفات اللاحقة للملف الإيراني في المنطقة، ومنها سورية، فقد عزّزت عودة التفاوض موقف إيران في سورية على حساب الموقف الروسي، ومساحة هيمنته على النظام السوري. ومن هنا، يمكن أن نفهم تسارع خطوات دول خليجية وإقليمية نحو الانفتاح على إيران، وضمن ذلك تأتي ملامح الانفراج في تزايد الحديث عن عودة العلاقات العربية (وبخاصة الدول المتخوفة من التقارب الأميركي – الإيراني) مع الرئيس بشار الأسد، في خطوة استباقية وتمهيدية ووظيفية لدوره وسيطاً عربياً مع إيران، إضافة إلى الدور العراقي الحالي في مقابل التساهل في الملف اليمني والتفاوض مع الحوثيين.

ومع ذلك، ما يفترض إدراكه أنّ التصارع أو التجاذب بين الولايات المتحدة وإيران لا يتعلق بالموضوع السوري، ولا العراقي بالطبع، وإنّما يتعلق، وفق الذهنية الأميركية، بإحباط محاولة إيران الاستحواذ على الطاقة النووية، وبأمن إسرائيل، وتحجيم النفوذ الإيراني في المشرق العربي، وتحت شعارات مسألة حقوق الإنسان. وضمن ذلك، كلا الملفين، السوري والعراقي، يتبعان ضمنياً للملف الإيراني من جهة، والقبول الإسرائيلي بهما من جهة مقابلة، بما يحقق استخدامهما أدوات شرطية حدودية لحفظ أمنها، وتحقيق مطامحها في تبادل فتح الأسواق معها، والتي بدأت في مرحلتها الثانية من الإمارات وتمدّدت إلى البحرين وعُمان والمغرب والسودان بشكلها العلني، وغيرهم من تحت الستار.

قد يقضّ الاتفاق المأمول دولياً مضاجع بعض الدول الخليجية، وقد يكون على غير هوى إسرائيل بتفاصيله الكثيرة، لكنّه حتماً سيكون مضبوطاً بما يحقق الشرط الإسرائيلي. وهو، في الوقت نفسه، يبدّد مساعي المعارضة السورية الراغبة في مزيد من التضييق على إيران لدورها المدمر في سورية، ومسؤوليتها عن استمرار حرب النظام السوري على الثائرين عليه. لكن، وفق نظرة المجتمع الدولي، الاتفاق عنصر حماية من الطموح الإيراني الكارثي في صناعة القنبلة النووية، ومخاوف استخدامها، أو حتى التلويح بذلك، بما يهدّد الأمن والاستقرار العالميين، ما يضعنا في حالةٍ من فوضى المشاعر، فمن جهةٍ، يقوّض الاتفاق مساعي إيران في أن تكون قوة عظمى، ويحدّ من تطورها النووي، ولاحقاً الصاروخي. ومن جهة مقابلة، قد توسع الانفراجة التي يحققها الاتفاق لإيران من أدواره الشيطانية في المنطقة، ومنها سورية، وتعمّم تجربة فرض واقع الأنظمة الديكتاتورية الشبيهة به.

في أيّ حال، ما يجري يمكن تعريفه في حقل السياسة بإعادة تموضع، حيث معظم الأطراف الدولية التي كانت إلى فترة قريبة تقف في مواجهة بعضها بعضاً، بكلّ الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية، تقوم حالياً بمراجعة مواقفها وعلاقاتها وسياساتها، ما يؤكّد خواء المبادئ، وأنّ الدول تؤسّس سياساتها على المصالح التي تخدم الأنظمة الحاكمة، وعلى مكانتها دولة أو سلطة، وليس على قيم الحق والعدالة، وهذا ما يمكن أن نفهمه من محاولة هذه الدولة أو تلك الانفتاح على إيران أو على أتباعها من الدول. ومن جهة ثانية، يعكس هذا التطور حقيقة غياب النظام العربي، كنظام متمحور حول ذاته وأولوياته ومصالحه، إذ ما إن تغير ساكن البيت الأبيض الأميركي، حتى بدأت سياسات دول عديدة تتغير، من دون أي مبرّر أو مقابل حتى، وهو ما يؤكد خواء ما يسمّى النظام الرسمي العربي.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى