الفجوة بين الذين يملكون والذين لا يملكون آخذة في الاتساع فحسب. وقد شرع شمال الكرة الأرضية في الخروج من أزمة الوباء بالآليات اللازمة لتوفير جرعات التعزيز حسب الضرورة -بينما يواصل الجنوب العالمي محاربة وباء لا يني يزداد ضراوة. ومع ذلك، قد يكون الوباء مكلفًا جيوسياسيًا حتى بالنسبة لهذه البلدان الغنية، حيث يقوم الحلفاء أو العملاء السابقون بتغيير الاصطفافات للتوافق مع الخصوم الحاليين، بينما يصعد الشركاء السابقون بقوة وإصرار.
* * *
أدى الوباء إلى المزيد من تعميق الانقسام العالمي بين الشمال والجنوب، مع تحرك الدول الغربية الغنية بثبات نحو تحقيق مناعة القطيع في مجتمعاتها بينما تنتظر غالبية دول إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية أن تقطر عليها اللقاحات ببطء. ويُنتج عدد قليل فقط من البلدان لقاحات فيروس كورونا الخاصة بها، في حين تعتمد عليها بقية العالم في الحصول على المطاعيم. ويثير هذا الواقع شبح قدوم ترتيب جيوسياسي جديد -والذي تتحدد فيه العلاقات بين العميل والراعي من خلال عدم التناسق في عرض اللقاح مقابل الطلب.
ثمة مؤشرات قوية مُسبقاً على أن الذين لا يملكون اللقاح أصبحوا مكشوفين أمام الإكراه والإغراء الدبلوماسيين. وقد بدأت روسيا والصين في توفير اللقاحات مقابل الحصول على تنازلات مواتية في السياسة الخارجية، وكذلك فعلت إسرائيل أيضاً. وفي الأثناء، تركز الدول الغربية على برامج التطعيم المحلية الخاصة بها -على الرغم من أن الولايات المتحدة قد أعلنت مؤخرًا عن نيتها تقديم مساعدات من اللقاحات إلى البلدان التي ضربها الوباء بشدة، وخاصة الهند.
بالنسبة لمنتجي اللقاحات، هناك دائمًا السوق -وقد نجح ذلك، للوهلة الأولى، بالنسبة للبعض. فقد شرع الاتحاد الأوروبي في تجاوز المنعطف، حيث أدار توزيع ملايين الجرعات بين دوله الأعضاء البالغ عددها 27 دولة. وتستمر إسرائيل في أن تكون قصة نجاح مبكرة في موضوع اللقاحات. فبدلاً من استخدام قاعدتها الصيدلانية الكبيرة، استوردت الملايين من جرعات “فايزر -بيوتنيك” وأدارت توزيعها على مواطنيها بسرعة وكفاءة. وعلى الرغم من عدم امتلاكها القدرة على إنتاج اللقاحات محلياً، تحتل كندا الآن المرتبة الثالثة من حيث معدلات التطعيم لأكبر 34 دولة، بعد المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وقد استوردت عشرات الملايين من جرعاتها من أوروبا والولايات المتحدة. ويمكن العثور على قصص نجاح مماثلة في قطر، والإمارات العربية المتحدة والبحرين.
ومع ذلك، تقتصر قصص نجاح السوق هذه إلى حد كبير على العلاقات التجارية الكثيفة الموجودة مسبقًا بين الاقتصادات الصناعية الغنية والمتقدمة. وما تزال معدلات التطعيم في معظم البلدان الأخرى منخفضة للغاية، وعلى الرغم من وجود كومة من جرعات “أسترا-زينيكا” في الولايات المتحدة، فإن هذا يأتي نتيجة لقيود الإمداد. وتعني قوانين الملكية الفكرية وقيود البنية التحتية احتكارًا شبه كامل لقدرات الإنتاج في حفنة صغيرة من البلدان، وتسلسلًا هرميًا للمزايا والأفضليات التجارية، تحظى فيه حفنة من البلدان غير المنتجة للقاحات بالأولوية، بينما تُترك دول أخرى في عوز كامل.
للتغلب على هذه التحديات، أنشأت منظمة الصحة العالمية “كوفاكس”، وهي مبادرة لتنسيق أبحاث اللقاحات وترخيص الإنتاج من أجل ضمان التوزيع العادل والمنصف في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، فشلت هذه الجهود، حتى الآن، وبشدة. وتم توزيع قدر قليل من اللقاحات من خلال هذا الجهد التعاوني. بدلاً من ذلك، وفي مواجهة النقص المحلي، فرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قيودًا على صادرات اللقاح، ما حد كثيراً من الإمداد.
ولكن، بينما ما تزال الولايات المتحدة وكندا وأوروبا تركز على حملات التطعيم المحلية الخاصة بها، يستعد منتجو لقاحات آخرون لاستغلال الطلب العالمي واستخدام إمداداتهم الخاصة منها كأداة دبلوماسية.
وقد انخرطت كل من الصين وروسيا بنشاط في دبلوماسية اللقاحات، وربطتا صادرات اللقاح بتحصيل تنازلات السياسة وعمليات إعادة التشكيل الجيوسياسية المواتية. في شباط (فبراير)، توسطت روسيا في إطلاق سراح مواطن إسرائيلي محتجز في سورية مقابل قيام إسرائيل بتمويل إرسال لقاحات “سبوتنيك في” إلى سورية. وبالمثل، قدمت روسيا اللقاحات إلى بلدان أوروبا الوسطى والشرقية، مجتذبة إياها أقرب إلى مدارها.
ومن جهتها، أعلنت الصين أن لقاحات “سينوفاك” و”سينوفارم” هي “منفعة عامة عالمية”، وبدأت في إمداد ما يقرب من 100 دولة بها -في كثير من الحالات من دون أي تكلفة. ويبدو أن بعضًا من هذا الجهد يهدف إلى تقويض وإحباط الصفقات التي أبرمتها الدول مع شركة “فايزر” من خلال إرسال الشحنات في وقت أبكر، وربما رشوة المسؤولين المحليين. وفي الوقت نفسه، تشير تسريبات جديدة إلى أن الصين طالبت باراغواي بتغيير موقفها من تايوان ونجحت في الضغط على البرازيل لفتح سوق “الجيل الخامس” أمام شركة “هواوي” الصينية كشرط مسبق لتزويدهما باللقاحات.
إذا كان هذا الاتجاه ينتمي إلى فكرة “اغتنم الفرصة” لمرة واحدة، فإن من المرجح أن تأتي كل من روسيا والصين في المقدمة، وكذلك الهند أيضًا، بمجرد أن تنتهي من مواجهة الموجة الثانية المتصاعدة بسرعة من التفشي. وإذا لم تكن هناك حاجة إلى جرعات تعزيزية أو لقاحات منتظمة أكثر من مرة كل سنوات عدة، فمن غير المرجح أن يشهد العالم إعادة توجيه جيوسياسية كبيرة. ولكن، إذا كانت هناك حاجة إلى حقنة سنوية من اللقاح، وهو ما حذر كبار علماء الأوبئة من أنه قد يكون ضرورياً، فربما تكون هذه قصة أخرى.
يشكل الأمن القومي واحداً من منافع الهيمنة الرئيسية التي توفرها القوى الطامحة. وعادة ما تتجلى التبعيات الجيوسياسية نمطياً في شكل توفير الأدوات العسكرية من خلال صفقات الأسلحة، والقواعد العسكرية، والالتزامات الأمنية الجماعية. وخلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، تدفقت كميات هائلة من الأسلحة، والتدريب، والقوات على الجنوب العالمي حيث تنافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على كسب الدول العميلة، بينما كانت تلك الدول العميلة تسعى بطريقة انتهازية إلى الالتحاق بالراعي الأكثر سخاء. وفي حين أن هذه التدفقات تضاءلت منذ ذلك الحين، فإنها ما تزال مستمرة. وفي السوق الحالية من أجل هذا النوع من المنفعة، تتربع الولايات المتحدة علىي القمة، بدعم من عدد قليل من الحلفاء. وتهيمن روسيا في منطقة صغيرة من الدول التي تدور في فلكها، وتسعى الصين إلى الشيء نفسه، بنجاح مختلط وإنما بتطلعات واضحة.
في سوق الأدوية العالمي، تبدو الأمور مختلفة. ففي حين أنها ما تزال لاعباً رئيسياً، تواجه الولايات المتحدة منافسة شديدة من العديد من المنافسين المحتملين. في أوروبا الغربية، تتمتع ألمانيا والمملكة المتحدة بنفوذ غير متناسب في هذا المجال، وكذلك حال روسيا في مناطق نفوذها السابقة، أوروبا الوسطى والشرقية. وتتمتع كل من الصين والهند بقدرة إنتاجية هائلة، والأهم من ذلك أنهما تسيطران على أسواق تصدير الأدوية المكافِئة خارج الغرب. وعلى الرغم من كونها قوة إقليمية صغيرة نسبيًا، تتمتع إسرائيل أيضًا بأهمية أكبر بكثير مما قد يشير إليه حجمها كمورد رئيسي آخر للأدوية المكافئة.
إذا ظل الطلب على اللقاحات مرتفعًا على المدى الطويل، فإن المنافسة بين هذه الدول لتصبح المورِّد المهيمن للقاحات في العالم ستؤدي إلى توازن قوى عالمي مختلف تمامًا عما هو ماثل اليوم.
في حين أنها تشكل موطنًا للقاحات التي تنتجها شركات من أمثال “فايزر” و”موديرنا” و”أسترا-زينيكا” و”جونسون أند جونسون” -وكلها الآن أسماء معروفة جداً وتعد لقاحاتها أكثر فعالية- أبدت حكومات هذه الدول إحجامًا عن توفير الجرعات لكثير من الدول الأخرى في العالم وعلى حساب معدلات التطعيم المحلية. ولم تصدِّر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أي قدر من اللقاحات تقريبًا، والاتحاد الأوروبي يضغط بشدة. وبالمثل، لم تكن هذه الدول مستعدة للتنازل عن براءات الاختراع، والذي كان سيسمح بإنتاج هذه اللقاحات حيث تشتد الحاجة إليها. ويشير هذا كله إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بطيئان في الاستفادة الكاملة من الفرص الجيوسياسية لدبلوماسية اللقاحات -أو أنهما على الأقل غير مستعدين للقيام بذلك بالخفة والحماسة نفسهما اللتين تتمتع بهما الدول الأخرى. لكن كل هذا قد يتغير مع مرور الوقت، وستكون النتيجة تفاقم عدم المساواة في العلاقات التجارية غير العادلة مسبقاً بين هذه البلدان وجنوب الكرة الأرضية.
وعندما يتعلق الأمر بآسيا، فإن التركيز ربما ينصب في أغلبه على تايوان، حيث كانت دبلوماسية الأوبئة مكثفة بشكل خاص. فقد حاولت الصين استغلال الوباء لعزل الجزيرة، وتحركت تايوان لإحباط تلك المحاولات من خلال مبادراتها الدبلوماسية الخاصة -بما في ذلك تعزيز نجاحاتها في مجال مكافحة فيروس كورونا. وعلى وجه الخصوص، سعت الصين، دون جدوى، إلى ربط توفير اللقاح بعلاقات أكثر برودة مع تايبيه، في حالة باراغواي. وبدلاً من ذلك، تدخلت الهند لتقديم اللقاحات -بناءً على طلب تايوان. وفي حين أن الصين قد تكرر مثل هذه التحركات في المستقبل، فإن نفوذ الهند سيزداد إذا أصبح توفير اللقاح سلعة جيوسياسية أساسية وطويلة الأجل. كما أنه يُظهر أن تايوان لا تفتقر إلى وجود رعاة أقوياء، وأن المنافسة الإقليمية المستمرة بين الصين والهند قد توفر لها الحماية.
لكن الاحتمال الذي ربما يكون مدهشاً هو أن المستفيد الأكبر قد يكون إسرائيل. الآن، تستعد شركة “تيفا” للأدوية، أكبر منتج مفرد للأدوية المكافِئة في العالم، بالفعل للبدء في تصنيع جرعات مرخصة من اللقاحات. ويقع المقر الرئيسي للشركة في مدينة بيتاح تكفا الإسرائيلية، وقد لا تكون الشركة المورِّد المهيمن للأسواق الغنية في أوروبا والولايات المتحدة، ولكنها مصدر أساسي للأدوية بأسعار معقولة لمعظم دول الجنوب، وسوف تعزز بشكل كبير النفوذ الجيوسياسي لإسرائيل أيضاً في حال أصبح التوفير المستمر للقاح ضد فيروس “سارس- كوف-2” ضروريًا لصحة العالم. وبحسب ما ذُكر، فقد عرضت إسرائيل تقديم جرعات اللقاح على كل من هندوراس، وجمهورية التشيك، وغواتيمالا في مقابل موافقة هذه الدول على نقل سفاراتها إلى القدس.
لقد شرع شمال الكرة الأرضية في الخروج من الأزمة بالآليات اللازمة لتوفير جرعات التعزيز حسب الضرورة -بينما يواصل الجنوب العالمي محاربة وباء لا يني يزداد ضراوة. ومع ذلك، قد يكون الوباء مكلفًا جيوسياسيًا، حتى بالنسبة لهذه البلدان الغنية، حيث يقوم الحلفاء أو العلماء السابقون بتغيير الاصطفافات للتوافق مع الخصوم الحاليين، بينما يصعد الشركاء السابقون بقوة وإصرار.
*Simon Frankel Pratt: محاضر في كلية علم الاجتماع والسياسة والدراسات الدولية بجامعة بريستول.
*Jamie Levin: أستاذ مساعد للعلوم السياسية في جامعة سانت فرانسيس كزافييه في كندا.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Vaccines Will Shape the New Geopolitical Order
المصدر: الغد الأردنية/–(فورين بوليسي)