أزمة العرب في الجزيرة السورية

عبدالله النجار

نأى قسم كبير من عرب الجزيرة السورية بأنفسهم عن الثورة منذ البداية، وفي هذا الصدد تركزت المظاهرات في حي غويران في مركز المحافظة وشارك فيها المتظاهرون بصورة فردية، في حين بقيت معظم المنظومات العشائرية في صفّ النظام أو على الحياد السلبي في أحسن الأحوال.

وفي حين تتعدد أسباب ذلك إلا أن هناك سبباً رئيساً لهذا الموقف يتمثل في تخوفهم المستمر على جزيرتهم من استفراد الأحزاب الانفصالية بها، ومع ذلك فقد وقعوا في المحذور حين قام النظام بتسليم الجزيرة لحزب العمال الكردستاني PKK أشد هذه الأحزاب تطرفاً، والذي تحددت مهمته في إفشال مشاركة الأكراد في الثورة، ومنع العرب من تحول مناطقهم إلى ملاذاتٍ آمنة للجيش الحر، ولفت انتباه تركيا واهتمامها لصرف أنظارها عن دعم الثورة.

نجح حزب العمال الكردستاني في تنفيذ المهمات الثلاث، حيث استغل دخول الجيش الحرّ إلى رأس العين في أول تشرين الثاني 2012 ليبدأ حملة قومية لحشد الأكراد خلفه كان عنوانها منع الجيش الحرّ من دخول المناطق الكردية، بحجة حمايتها من الخراب وأن النظام موجود في دمشق لا في الجزيرة، وقد آزرته في ذلك أغلب الأحزاب الكردية.

ثم نجح مرةً أخرى في القضاء على آخر معلم للثورة بين الأكراد حين قمع مظاهرة عامودا في 27 من حزيران 2013 معلناً نهاية الثورة السورية هناك، وكلل ذلك بإعلان كانتونات الإدارة الذاتية المرحلية في الجزيرة وعين العرب وعفرين التي رأى فيها القسم الأكبر من الأكراد السوريين بارقة أمل لحلمهم التاريخي في إقامة إقليم كردي في سوريا، وبهذا الإجراء تمكن من حشد غالبية الشارع الكردي خلفه، ثم جاءت معركة عين العرب ومشاركة الحزب في التحالف الدولي لقتال داعش، ليكمل الحزب قضاءه على كل الأحزاب المنافسة له، ويعلن نفسه حزباً وحيداً لأكراد سوريا بلا منازع.

وبالتوازي مع ذلك قاتلت قوات الحزب فصائل الجيش الحرّ إلى جانب النظام منذ اللحظة الأولى التي وصلت فيها إلى الجزيرة، وفي النهاية سيطر الحزب على تلك المناطق بمساعدة التحالف الدولي بعد طرد تنظيم داعش منها.

استقطب الحزب العرب بوسائل وأساليب عديدة، فقد استوعب أعداداً كبيرة منهم في المجالس واللجان والمنظمات والتنظيمات الكثيرة التي أنشأها في مناطق سيطرته، لقاء صلاحيات مضبوطة ومرتبات مجزية في منطقة كانت ولا تزال تعاني الفقر والتخلف الاقتصادي والتنافس العشائري، فضلاً عما خلفته الحرب من تكاليف اقتصادية باهظة.

ثم فرض التجنيد الإلزامي على أبنائهم، وفتح لهم باب التطوع المؤقت والدائم في قواته العسكرية والشرطية، وأخيراً فتح لهم باب الانتساب إلى حزب الاتحاد الديمقراطي PYD الذي باتت له فروعٌ في عدة مدن ونواحٍ عربية.

نصّبت قوى الأمر الواقع رؤساء عشائر ووجهاء موالين لها استخدمتهم في تبرير جرائمها وانتهاكاتها بحق العرب، وهو ما تزال منظومة PKK تمارسه حتى الآن

ويستخدم الحزب واردات النفط في شراء الولاءات، حيث يخصص لرؤساء العشائر أعطيات شهرية لقاء تعاونهم معه وتهدئة الأوضاع في مناطقهم، وهكذا بات العرب المنظمون في المنظومة العشائرية في الجزيرة موزعين بين ولاءي PKK والنظام وكلاهما معادٍ للثورة، أما القلة القليلة التي أيدت الثورة فكان مصيرها التهجير على يد الجهتين السابقتين.

أظهرت سنوات الثورة فشل العشيرة سياسياً وعسكرياً، وهزيمتها في مواجهة حرب الإبادة التي تتعرض لها منذ عشر سنوات، وكشفت عجزها عن ضبط أبنائها والتحكم بولاءاتهم، كما تم انتهاك التقاليد العشائرية مراتٍ عديدة دون أدنى احترام لها كإرث اجتماعي قديم، ونصّبت قوى الأمر الواقع رؤساء عشائر ووجهاء موالين لها استخدمتهم في تبرير جرائمها وانتهاكاتها بحق العرب، وهو ما تزال منظومة PKK تمارسه حتى الآن، حيث بررت هجومها على حارة طيّ في القامشلي منذ أيام بمطالبة وجهاء عشائريين، ومن قبلها بررت حملتها الأمنية على مخيم الهول بمطالباتٍ عشائرية مماثلة أيضاً.

إن الاعتقاد بأن تكرر العشيرة تجربتها السياسية والعسكرية إبان الاستقلال عن فرنسا كان اعتقاداً خاطئاً، فالظروف الموضوعية والذاتية مختلفة، والعدو الذي كان واضحاً لا خلاف عليه بات موضع خلاف ووجهات نظر متباينة هنا، ولم تستطع العشيرة استجلاء الصورة بشكل واضح واتخاذ موقف موحد حيال ما يجري، مما أدى إلى تشتتها وتحولها إلى منصات تخدم أجندة القوى المسيطرة لا أهداف رعيتها، وهو أكثر ما ظهر في محافظة الحسكة.

وعلى خطا النظام يتمسك العمال الكردستاني بالمنظومة العشائرية العربية ويحاول إظهارها كقائد سياسي وعسكري شرقي الفرات وهو تعويم مزيف أجوف يخدم أهدافه فقط، بينما حارب تاريخياً المنظومة العشائرية الكردية، وسحب منها حتى الدور الاجتماعي الذي كانت تراهن عليه، ودمر منظوماتها وأتبعها لقيادته الحزبية.

ما زال أمام عرب الجزيرة فرصة كافية لاستعادة زمام المبادرة عبر النأي بالعشيرة جانباً وإبقائها حاملاً اجتماعياً لا علاقة له بالشأن العام، وهذا يحتاج أولاً إلى إبراز واجهات سياسية بناء على الخبرة والتجربة وفق معايير محددة لاعلاقة لها بالحوامل العشائرية، وثانياً تأسيس تنظيمات عابرة للعشائرية، أما تأسيس تنظيمات سياسية وتقاسم مناصبها وفق أسس عشائرية فهو تكرار لتجربة العشيرة الفاشلة في لبوسٍ حزبي مزيف، وقبل هذا وذاك لا بد من إيمان أبناء الجزيرة النابع من شعورهم بضرورة إنجاز ذلك إنقاذاً لوجودهم.

وأخيراً فإن الساحة الجزراوية لا تتسع لأكثر من تنظيم سياسي عربي واحد، تتحدد أهدافه في إنقاذ عرب الجزيرة من التشتت والفرقة التي وصلوا إليها، وتشكيل واجهة سياسية تمثلهم، أما المسائل الأخرى والمسائل الخلافية والإيديولوجية فيمكن ترحيلها إلى ظروف أفضل.

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى