مَن يريد الاحتواء ومَن يريد الاختراق في محادثات فيينا؟

راغدة درغام

قد يكون عنوان “الاحتواء” أبرز من “الاختراق” في محادثات فيينا الجارية بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا وبين إيران والهادفة الى إحياء الاتفاقية النووية JCPOA التي وقّعتها هذه الدول عام 2015. إنما هناك من يراهن على التصعيد والمواجهة الإيرانية مع الولايات المتحدة لأن ذلك يخدم حساباته، وفي الطليعة “الحرس الثوري” الإيراني لأسباب انتخابية وروسيا لأسباب أوكرانية.

الصين تبدو أكثر هدوءاً وأقل توتراً من روسيا العازمة على الانتقام من إدارة بايدن وعقوباتها عبر البوابة الإيرانية، وهي تدعم إصرار طهران على الرفع الفوري لكامل العقوبات المفروضة عليها وفي مقدمتها حظر بيع السلاح لإيران والعقوبات على القطاع النفطي.

فموسكو جاهزة الآن لصفقة أسلحة ضخمة لإيران لا تريدها أن تنتظر التدرج في رفع العقوبات كما تريد واشنطن. وهي اختارت أن تقف قطعاً مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وليس مع الدول الخليجية العربية- إذا فُرِض عليها أن تختار بين الاثنين. الصين تتّقن الإبحار بين استثمارها الضخم في إيران نفطياً واقتصادياً وعسكرياً عبر بيعها السلاح والتموضع في قواعد حيوية، وبين علاقاتها الاقتصادية والنفطية مع الدول الخليجية العربية.

كلاهما لن يكترث لما في ذهن إدارة بايدن عقاباً لهما على انتهاك العقوبات الأميركية التي فرضتها إدارة ترامب وتعهّدت المزيد منها، بالذات في القطاع المالي، إذا باعت روسيا والصين الأسلحة الى إيران. ذلك لأن زخم التوعد، في رأيهما، قد ولّى ولأنهما مقتنعتان بأن الرئيس جو بايدن لن يتجرأ. وبالقدر نفسه من الأهمية في الحسابات الصينية والروسية، إن كلاً منهما ترى أن ليس في مصلحتها تيسير تفاهمات أميركية – إيرانية ثنائية، بل كل منهما تسعى الى أن يتم أي تفاهم أو إنجاز عبر مساعيها وألّا يكون مباشراً.

فلقد أصبحت الجمهورية الإسلامية الإيرانية سلعةً وذخيرةً لدى الصين وروسيا في مواجهتهما مع الولايات المتحدة، والمستفيد الأول في هذه المعادلة هو “الحرس الثوري” المتشدّد والقائم على مشروع التوسّع الإيراني في أيٍّ من السيناريوات. وبين الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح السؤال عن مدى قدرة ومدى استعداد الدول الخليجية العربية لاستخدام أدوات النفوذ التي تملكها في علاقاتها مع الصين وروسيا للتأثير في سياساتهما الداعمة عمليّاً لمشروع “الحرس الثوري” الإقليمي والذي تعتبره الدول الخليجية العربية مهدِّداً لأمنها القومي ولدول عربية مثل العراق ولبنان وسوريا.

المبعوث الأميركي الخاص السابق الى سوريا ونائب مساعد وزير الخارجية في إدارة ترامب، جويل رايبورن، وهو حالياً المستشار الخاص لشؤون الشرق الأوسط في مكتب السيناتور بيل هاجرتي، شارك هذا الأسبوع في الجلسة الافتراضية 32 لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي والتي شملت كلاً من عبدالرحمن الراشد، رئيس هيئة تحرير قناة “العربية”، وأندريه بيسترتسكي رئيس مجلس إدارة التنمية والدعم لمنتدى “فالداي” في موسكو، وماثيو ماكينيس مدير الأبحاث في معهد دراسات الحرب والنائب السابق للممثّل الخاص لإيران وعضو تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية.

رأي رايبورن هو أن الدول الخليجية العربية “تملك أدوات التأثير leverage، وهي ستضطر لاستخدامها لأن الاتفاقية النووية، بين إيران والقوى الأخرى، للأسف في رأيي، لا تعالج أي من مشاكل المنطقة. وهي مسائل وجودية لدول الشرق الأوسط”. وقال إن “هدف جنرالات الحرس الثوري الإيراني هو أن يتمكنوا من امتلاك أدوات النفوذ العسكرية لزعزعة الاستقرار في البحر المتوسط وباب المندب ومضيق هرمز- الأمر المرفوض لدى بقية العالم. فهذا أمر لا يمكن أن يستمر”، ومن هنا، لا مناص من استخدام الدول الخليجية العربية أدوات نفوذها مع الدول الداعمة لإيران.

رد عبدالرحمن الراشد هو “أننا لسنا في موقع قوي يمكّننا من الإملاء على الصين”، رغم العلاقات الاقتصادية وبالذات النفطية بين السعودية والإمارات وبين الصين، إنما توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وإيران “سيمتحن هذه العلاقة بين الصين والدول العربية”.

الصين تسعى، أضاف، الى اقامة “سلام بين كل الشركاء التجاريين” إشارة الى الدول الخليجية العربية وإيران إنما “في الواقع، هذا مستحيل تطبيقه”. في رأيه أن الصين ضخمة في المال والنفوذ لدرجة أنها “قادرة على أن تكون صديقة للطرفين، فيما روسيا عاجزة” عن ذلك، وبالتالي “في نهاية المطاف، على روسيا أن تختار” بين الطرفين، وليس الصين. رأيه هو “أننا لم نطّلع بعد على ما هي السياسة الروسية بوضوح، وأين ستقف روسيا في النهاية. عليها أن تختار إما أنها مع الدول الخليجية أو أنها مع إيران”.

“روسيا تفضّل ألا تنحاز لطرف” قال اندريه بيستريتسكي “فروسيا تفضّل التوازن بين جميع الدول وأن تكون صديقة لجميع دول المنطقة إذ إن هدفها الأساسي هو التوازن والأمن”. وأضاف أن “روسيا بالطبع ليست الصين الضخمة والدولة العظمى الحقيقية بمالها وفِرَصها المتاحة. فالصين اليوم هي لاعب جديد في المنطقة” ودورها “ينمو ويزداد” في العالم أجمع، وما تسعى روسيا الى القيام به هو إيجاد الحلول “العالمية” لقضايا منطقة الشرق الأوسط. لدى الصين، في رأي بيسترتسكي “خطة واستراتيجية وأفكار” وهي “جدّية” وقوّتها “ناعمة” لكنها “ليست مغرورة مثل الولايات المتحدة”.

للصين استثمارات في مختلف دول منطقة الخليج “وهي لن تضع كل بيضها في السلّة الإيرانية” في رأي ماثيو ماكينيس. لكن الصينيين يجدون في اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع إيران “وسيلة لتحسين موقعهم العام في المنطقة وللاستمرار في فرض نفوذهم ولمقاومة الولايات المتحدة والغرب”. في رأيه أن هذه ليست شراكة بمعنى التحالف عسكرياً “فالصين لن تريد أن تنجرّ الى التزامات تجبرها على الدفاع عن إيران”. لكن إيران تضاعف دعمها العسكري للّاعبين غير الحكوميين في المنطقة وتزودهم بالسلاح، وأضاف ماكينيس، مشيراً الى “الحوثيين” في اليمن و”حزب الله” في لبنان و”الحشد الشعبي” في العراق، بلا محاسبة جدّيّة “وإدارة بايدن لن تتعامل مع ذلك كما فعلت إدارة ترامب”. وعليه “سيقوم شركاؤنا وحلفاؤنا برسم مساراتهم بأنفسهم” وعلى إيقاع الديناميكية الجديدة في المنطقة للصين وروسيا وإيران.

“الحرس الثوري” الإيراني يملي السياسة الإيرانية الخارجية، بل والنووية، وهو “حاضر” في محادثات فيينا بقوّة. أولوياته على الصعيد المحلّي هي إزالة الليبراليين من المشهد الانتخابي في إيران والفوز في الانتخابات ليحكم علناً من دون غطاء “المعتدلين” الذين يمثلهم الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف. العداء مع الولايات المتحدة مادة مفيدة لـ”الحرس الثوري” انتخابياً واستراتيجياً، لا سيّما أن اخراج القوات الأميركية من الشرق الأوسط والخليج هو مبدأ و”دعوة” للنظام الحاكم في طهران ولـ”الحرس الثوري” بصورة خاصة. ثم أن السياسة الخارجية الإيرانية تقوم على التوسّع والنفوذ عبر الميليشيات المحلية التابعة لـ”الحرس الثوري”، ولذلك رفضت الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 2015 وهي ترفض قطعاً الآن في فيينا السماح للدول الست بأن تلمس مسألة “السلوك” الإيراني الإقليمي تحت أي ظرف كان.

الدول الست، الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، رضخت عام 2015 لإصرار إيران على استبعاد سلوكها الإقليمي كليّاً عن المحادثات النووية. أغدقت عليها الأموال بموجب الاتفاقية JCPOA فاستفاد “الحرس الثوري” بالدرجة الأولى وتوسَّع في سوريا والعراق ولبنان واليمن عبر وكلائه وحلفائه. هكذا خدمت الدول الست الأجندة الاقليمية لـ”الحرس الثوري”، بل وموّلتها، الى حين مجيء دونالد ترامب الى الرئاسة الأميركية وفرضه العقوبات على إيران بعدما انسحب من الاتفاقية النووية.

اليوم، يشعر “الحرس الثوري” بأن التاريخ يعيد نفسه وأن حظه سعيد جدّاً بخسارة ترامب الانتخابات وبمجيء جو بايدن وفريقه الى الحكم في الولايات المتحدة. فهذا الفريق فاوض عام 2015 وهو جاهز للخضوع مرة أخرى للإملاءات الإيرانية العازمة على استبعاد سياساتها الإقليمية كليّاً عن المفاوضات النووية وإدراج هذا “الهمّ” concern في مرحلة لاحقة عائمة خالية من أدوات الضغط والتأثير. فإذا أسفرت مفاوضات فيينا عن اختراق، يبقى “الحرس الثوري” مستفيداً، ليس فقط باستثناء أدواره التوسّعية، وإنما أيضاً عبر رفع العقوبات وإغداقه مرة أخرى بالأموال التي تسهّل تنفيذ مشاريعه الإقليمية. ولكن.

لكن فشل المفاوضات أو على الأقل احتواء نجاحها الى ما بعد الانتخابات الإيرانية هو أكثر فائدة لحسابات “الحرس الثوري” أولاً، لأنه لا يريد أن يتم التوصّل الى اختراق وإنجاز رفع العقوبات في عهد روحاني – ظريف ليفيدهما في الانتخابات، وثانياً، لأنه لم يعد قلقاً ماليّاً بعدما تم توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الصين والتي تحصل إيران بموجبها على ما يقارب 20 مليار دولار سنويّاً. فجزء من هذه الأموال سيموّل مشاريع “الحرس الثوري” في الجغرافيا العربية.

بريطانيا لا تلعب دوراً كبيراً في هذه الجولة من المفاوضات مع إيران. ألمانيا هي التي تقود معسكر الدفع نحو إنجاح مفاوضات فيينا وهي تعبّر عن مواقف أوروبية لا يهمها السلوك الإيراني الإقليمي ولا قيامها عمليّاً بتمويل وتمكين مشاريع “الحرس الثوري” بدلاً من مواجهتها في المفاوضات. فالأولوية لديها نووية حصراً بغضّ النظر عمّا أسفرت عنه سياسة الرضوخ لاستبعاد السلوك الإيراني عن المراقبة والمحاسبة ما ساهم في مجازر في سوريا، وأسقط قدرة العراق على الاستقرار والاستقلال، ووضع لبنان في عهدة “حزب الله”، وحوّل “الحوثيين” في اليمن قاعدة لانطلاق الأسلحة الإيرانية ضد الدول الخليجية العربية.

فالدول الأوروبية تكترث فقط بالمسألة النووية وهي مستعدّة لتقديم أقصى التنازلات لـ”الحرس الثوري” بما في ذلك تلبية إصراره على الاستمرار بتخصيب اليورانيوم ضمن “حدود معقولة”، والاستمرار بالبرنامج النووي الإيراني مع الاستمرار برفض السماح لوكالة الطاقة الذرية بما يسمّى حرية الاطّلاع الكامل full access على هذا البرنامج السرّي. أما السياسة الخارجية الإيرانية فإنها تُبحَث في أروقة فيينا بقلق إنما باستبعاد تلقائي لها عن المفاوضات.

المواقف الأوروبية، لا سيّما الألمانية، تكمّل مواقف روسيا التي تخشى تأجيل رفع حظر السلاح بإصرار أميركي ومواقف الصين التي تولّي الأولوية لرفع العقوبات النفطية الى جانب رفع حظر بيع الأسلحة لإيران. ثم أن مسألة الصواريخ التي توليها الولايات المتحدة أهمية مميزة لا تجد اهتماماً مماثلاً من الأوروبيين أو من الصين وروسيا المتعاطفتين مع إصرار إيران على استبعاد مسألة الصواريخ عن المفاوضات النووية والعازمتين على عدم الضغط على طهران في مسألة السلوك الإقليمي.

أحد المطلعين على رسم السياسة الروسية وصف مواقف موسكو من مفاوضات فيينا بأنها قائمة على “لا قلق ولا عجلة” Don’t worry. Don’t hurry وقال: “نحن نريد أن تتخذ الولايات المتحدة الخطوات التي يمكن تفسيرها بأنها انتصار لنا. فنحن لا نريد انجازات أميركية تأتي من دون قيام روسيا بالضغط على إيران”.

روسيا تبقى مرتبكة نتيجة تدهور علاقاتها الأوروبية والأميركية بسبب أوكرانيا، لا سيّما أن حزمة جديدة من العقوبات ستُفرَض عليها. سياساتها هذه الأيام أكثر تكتيكية مما هي استراتيجية. العداء للغرب يشكّل قاسماً مشتركاً بينها وبين الصين وإيران وهي تريد “الجلوس على كرسيّين” في آن في علاقاتها مع الولايات المتحدة. لذلك تفضّل في هذه الحقبة الاحتواء على الاختراق في مفاوضات فيينا.

فريق بايدن يدرك، بلا شك، تحدّيات فيينا لكنه عازم على المضي الى اختراق يبدو بعيد المنال الآن. الخوف هو أن تتخلى إدارة بايدن عن أدوات التأثير وأن تموّل “الحرس الثوري” ونشاطاته بإرادتها.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى