الدّولة واللا دولة تتكاملان في عراق ناقص

فاروق يوسف

قبل أن تعلن الأحزاب العراقية رفع يدها عن منصب رئيس الوزراء، مستسلمة لتسوية توفيقية فرضتها الولايات المتحدة وأدت إلى تكليف رئيس جهاز المخابرات السابق مصطفى الكاظمي تشكيل الحكومة وإدارتها، كان العراق قد شهد انضباطاً حذراً في العلاقة التي تربط بين سلطتي الدولة واللادولة في سياق معادلة عدم التصادم وعدم الإضرار بالمصالح التي عمل الجميع على الحيلولة دون تضاربها.

ولم يقع ذلك التكامل المريب إلا لأن الحكومات برؤسائها كانت تسيّرها قطعياً الأحزاب المهيمنة على تصريف الثروات وتقاسمها، وكانت هي الأصل، فيما كانت الحكومة هي الفرع التابع.

قبل عهد الكاظمي لم يقع أي صدام بين الحكومة والميليشيات. لم يتعرض نوري المالكي وحيدر العبادي وعادل عبد المهدي، وكلهم رؤساء وزراء سابقون، لما يتعرض له مصطفى الكاظمي اليوم من ضغوط تمارسها الميليشيات بطريقة يغلب عليها طابع التحدي الذي يصل أحياناً إلى درجة السخرية. “إما أنت وإما نحن”. في عهود رؤساء الحكومات السابقة، كان التيار الصدري يمارس استعراضات يغلب عليها طابع المزايدة المكشوفة “إما أن تزيد من استحقاقنا أو أن عليك أن تتحمل صداع الرأس”. لم يكن السلاح مطروحاً على الطاولة كما هو اليوم.

المشكلة تكمن اليوم في أن السلاح صار هو الحكم في العلاقة مع رئيس حكومة، كان ولا يزال يمارس تمارين عصيان خفية. وهو ما صار مزعجاً للأحزاب التي لم تعد قادرة على الصبر وهي ترى حكومة منزوعة السلاح تصر على أن لا تدخل في أي نزاع مسلح، وتلوذ بالصمت في مواجهة تهديدات تطلقها فصائل مسلحة متمردة. فالكاظمي الذي يقود حكومة في الوقت الضائع يمكنه أن يشكل خطراً على أحزاب صار بقاؤها مرتبطاً بمستقبل الصراع الإيراني ــ الأميركي. فلو أن الطرفين نجحا في الخروج من عنق الزجاجة، فإن ذلك بالتأكيد سيؤدي إلى انتهاء الدور الذي تقوم به الأحزاب في العراق خدمة للمصالح الإيرانية. لن تكون هناك مصالح إيرانية. يومها لن يكون الصراع مع حكومة الكاظمي ذا معنى. سيُقال يومها “لقد ضحّت إيران بأحزابها فيما لم تضح أميركا برجلها”.

كل هذا لن يكون جزءا من فيلم أميركي.

لذلك كان على الميليشيات أن تروّج لفيلم إيراني بديل. ومن الطبيعي أن يتصدر مقتدى الصدر المشهد. فهو رجل النظام الإيراني الذي يعارض إيران. تلك أحجية في حاجة إلى أن تُفكّك عناصرها.

لقد أسس الصدر عام 2003 ميليشيا “جيش المهدي” على عجل، مستعيناً بالسلاح الذي نُهب من مخازن الجيش العراقي أثناء الغزو الأميركي. مهدت تلك الميليشيا في وقت مبكر لقيام كيان اللادولة. كان ذلك الكيان الفالت منسجماً مع إعلان الحاكم المدني الأميركي بول بريمر رفع العمل بالقانون العراقي لمدة سنة وإلغاء الجيش العراقي، وهو ما وضع الدولة كلها في حالة تجميد انتهت بتحللها واندثار مواقع القوة فيها.

وإذا ما كانت الولايات المتحدة قد ذهبت إلى مجلس الأمن يومها من أجل استصدار قرار ينص على أن العراق دولة محتلة، فإنها لم تسع إلى استرداد الدولة العراقية وإحيائها وإعادة العمل بقوانينها السارية. أما حين وقع الصدام بين القوات الأميركية و”جيش المهدي”، في ما سُمي بـ”حرب النجف” عام 2004، فإن ذلك لم يكن بدواعي الحفاظ عما تبقى من كيان الدولة وهيبتها، بل من أجل التحكم بمسارات الفوضى التي عمت البلد من أجل التفرغ للتصدي للمقاومة التي بدت ملامحها واضحة في عدد من مدن غرب العراق.

لم تضعف تلك الحرب “جيش المهدي”، بل قوّته برغم أن هزيمته كانت واضحة بسبب عدم التكافؤ. لقد خرج منها باعتراف رسمي أميركي بسيادته على المدن ذات الأغلبية الشيعية، وهو قرار كان له الأثر الكبير في الدفع في اتجاه الحرب الأهلية التي شهدها العراق بين عامي 2006 و2007. فمن أجل تلك الحرب التي كانت ضرورية للأميركيين كان الإبقاء على “جيش المهدي” بمثابة تكريس لمبدأ السيادة الناقصة. لقد سعى الأميركيون إلى إقامة حكومة ثابتة بعد مسرحية مجلس الحكم، غير أنهم شعروا أن العودة إلى منطق الدولة الذي كان يحكم العراق من خلال حكومة مدنية لن يكون في مصلحة استمرارهم في تثبيت ركائز مصالحهم، لذلك وقع اختيارهم على نوري المالكي ليقود المرحلة التأسيسية لوجودهم الدائم في العراق. لقد تم اختياره بعناية. فهو زعيم حزب طائفي. وهو لا يؤمن بالعراق وطناً للجميع. وهو إن ملك الدولة، فإنه لا يؤمن بها ويميل إلى سلطة اللادولة. وهو ما أكدته الحوادث في ما بعد حين أعلن الرجل عن نفسه باعتباره زعيماً للمقاومة ومؤسساً للحشد الشعبي.

ما يواجهه رئيس الوزراء العراقي المنفتح على المحيط العربي من تحديات غير مسبوقة، إنّما يعود سببه إلى توجس الأحزاب من تنامي ظاهرة بسط نفوذ الدولة في مواقع ظلت طوال السنوات الماضية تخضع لسلطة اللادولة المتمثلة بالميليشيات التي يربطها بالأحزاب مصير مشترك يقع تحت خيمة الولاء لإيران، وإن كان البعض منها يتصرّف بطريقة تبدو مستقلة.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى