بين 30 – 31 الشهر المنصرم عَقد في موسكو منتدى “Valdai” الروسي للحوار الدولي مؤتمره السنوي العاشر تحت عنوان “الشرق الوسط في البحث عن نهضة مفقودة”، بشراكة من معهد الإستشراق الروسي. وكان حضور المؤتمر ضعيفاً هذه السنة، إذ أنه زاوج بين الحضور الشخصي والإفتراضي، وشارك فيه 50 إختصاصياً من حوالي 20 بلداً ، بما فيها لبنان، حيث تحدث مستشار الرئيس ميشال عون النائب أمل أبو زيد. ويأتي هذا المؤتمر في سياق الإهتمام الروسي المتزايد بالمنطقة، التي يتضاءل إهتمام الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي فيها، وتسارع روسيا والصين لملء “الفراغ”.
في الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر، كان لوزير الخارجية سيرغي لافروف كلمة مقتضبة، تبعها حوار مستفيض مع الصحافيين والحضور، اعتبره بعض المراقبين الحوار الأول غير المباشر مع الإدارة الجديدة للولايات المتحدة الأميركية. ورأى لافروف، أن المنطقة لن تفقد أهميتها الإستراتيجية، حتى بعد إنتهاء عصر الطاقة المستندة إلى النفط والغاز في خمسينيات أو ستينيات هذا القرن. وقال، بأنه حين أصبح النفط والغاز محرك الإقتصاد العالمي، إكتسب الشرق الأوسط أهمية جيوسياسية هائلة، وأصبح مسرحاً لمختلف الألعاب، التي كانت تتركز حول الوصول إلى مصادر الطاقة. وقال، بأن روسيا مع أن تكف المنطقة عن أن تكون مسرحاً لتصادم مصالح الدول العظمى، وأن روسيا إقترحت تطوير مفهوم الأمن الجماعي “للشرق الأوسط وليس فقط”. وقال، بأنه يأمل بأن يخلي العداء لإيران مكانه للحس السليم، وأن تصبح فكرة “الناتو الشرق أوسطي” و”الناتو الآسيوي” من الماضي، إذ “يكفينا الناتو الموجود حيث هو”.
وتناول لافروف الوضع السوري، وتحدث عن “مخاطر جدية” من تقسيم سوريا بسبب طموحات الأكراد والولايات المتحدة من خلفهم، وأكد، بأن إجتماع لجنة الدستور السورية قبل حلول رمضان أمر ممكن، وأن سوريا لن تستسلم للضغوط. واعتبر البعض، أن كلام لافروف هو رسالة للجميع، بمن فيهم النظام السوري، بأن روسيا مصرة على إطلاق العملية السياسية في سوريا، وأنها ستقف بوجه كل من يعرقل إطلاقه، وبالدرجة الأولى نظام الأسد نفسه.
لكن المعلق السياسي في صحيفة “NG” إيغور سوبوتين له رأي آخر في كلام لافروف بشأن الملف السوري. فقد قال ل”المدن”، بأن روسيا، وعلى العكس من إيران، “ليس بوسعها حتى التقدم بإقتراح ما”، ولا يتبقى لها سوى أن تنتهج خطاً محافظاً “للإبقاء على الأسد في السلطة”، وقال، بأنه سيكون مسروراً لو تبين “أنه على خطأ”. ورأى سوبوتين، أن إجتماعات مؤتمر “Valdai” أظهرت “كم ينتظرون من روسيا في الملف السوري”. وبرز ذلك، برأيه، في ما قامت به وكالات أنباء وقنوات Telegram من توزيع خبر كاذب يقول، بأن لافروف تحدث في المؤتمر عن “علاقة الإنتخابات الرئاسية السورية بعمل لجنة الدستور”. ويقول، بأن الوزير “ما كان ليقول ذلك” بالتأكيد.
وقال سوبوتين، بأنه إذا ما نظرنا إلى نشاطات موسكو في الأسابيع الأخيرة، يغدو واضحاً كم نشطت، سواء خطابياً، أو دبلوماسياً ، وسيقوم سيرغي لافروف في 13 الشهر الجاري بزيارة طهران، حيث سيكون موضوع الصفقة النووية، أحد المواضيع الرئيسية. لكن السؤال هو ما إذا كان الطرفان الخصمان ـ الولايات المتحدة وإيران- بحاجة فعلياً لمثل هذا النشاط الروسي المبادر.
وعلى العكس مما يؤكده سوبوتين، بأن إيران كانت الموضوع الأساسي على جدول أعمال المؤتمر، قال موقع أسبوعية “rusmir” الموالي في اليوم الأول للمؤتمر، بأن المؤتمرين سيبحثون كيف يتغير دور اللاعبين الخارجيين في المنطقة، وعملية تغير الأنظمة السياسية والمجتمعات، والنهضة الأيديولوجية.
لكن من الواضح، أن الهدف الرئيسي، الذي وضعه منظمو المؤتمر نصب أعينهم، كان الإستماع إلى كتاب وسياسيين وإختصاصيين من الشرق الأوسط، أو خبراء مهتمين بشؤونه، واستعراض آرائهم في عودة روسيا إلى المنطقة و”تنامي نفوذها ” فيها. ويقول، بأن روسيا تنشط في إعادة إعمار سوريا بعد الصراع المسلح، وتقوم بدور الوسيط بين أطراف النزاع الليبي، وأطراف الصراع العربي الإسرائيلي، “الذي طرأت عليه تغيرات مهمة” العام الماضي.
موقع “gazeta.ru” نقل عن مدير مركز الشرق الأوسط في كلية سانت أنتوني، جامعة أكسفورد، خبير منتدى “Valdai” روجين روغان قوله، بأنه تجري الآن عملية إعادة تشكيل جغرافية الشرق الأوسط، لكن الولايات المتحدة تحاول أن تقوم بذلك عن بعد “لننتظر ونرى إلى أي مدى ستنجح في ذلك”. ويقول ، بأنه ما كان ليبالغ في تقدير إمكانيات الولايات المتحدة، أو حتى الإتحاد الأوروبي، على العمل في هذه المنطقة. والمهم في هذا الإطار، هو كيف سيتعامل الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مع وباء الكورونا والمشاكل الإقتصادية، والغرب لم يكن في يوم من الأيام “على هذا القدر من الضعف في الشرق الأوسط”. وبعد وصول بايدن إلى البيت البيض، أخذ يولي السياسة الشرق أوسطية إهتماماً أقل، وأخذت الولايات المتحدة تعلن خططاً لتخفيض القوات العسكرية، أو الإنسحاب الشامل من أفغانستان وسوريا والعراق. ويرى أن بلدان الإتحاد الأوروبي تفقد مواقعها بسرعة في منطقة الشرق الأوسط، ونفوذها هناك يستمر بفضل “النوستالجيا الإستعمارية” لدى قسم من النخب المحلية. وهو لا يعتقد، أن أحداً يصدق جدياً، أن بريطانيا وفرنسا بوضع يمكنهما من تدخل ما وازن في شؤون المنطقة، ومسؤولياتهما لا تقارن، بالتأكيد، مع إمكانياتهما على العمل في المنطقة ورأى الخبير، أنه بمقدار ما تفقد الدول الغربية دورها في الشرق الأوسط، بقدر ما يتنامى نفوذ روسيا، التي تشارك في إقامة نظام جديد هناك، ويتزايد دور الصين، التي تركز بالدرجة الأولى على تحقيق المصالح الإقتصادية، وليس العسكرية أو السياسية.
موقع أسبوعية “AiF” واسعة الإنتشار (2.7 مليون نسخة) نقل عن مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية في”Valdai” جوست هيلترمان قوله في الحديث عما تغير في المنطقة بعد الربيع العربي، بأن الأنظمة، التي عاشت الربيع العربي، بقي معظمها في مكانه لم يتزحزح، بل على العكس تعززت تلك الأنظمة، أو أصبحت أكثر تعسفاً. ومن جانب آخر، اصبح الناس يعرفون بعد الربيع العربي، أن لديهم القدرة على إسقاط النظام الحاكم. هذان العاملان يخلقان حلقة مفرغة، ولذلك فإن التغيير الراديكالي لهده المنطقة “من المستبعد أن يجري في المستقبل المنظور”.
ويقول هيلترمان، بإنه إذا قامت الأنظمة المذكورة بتخفيف قبضتها، فلن يعود بإمكانها السيطرة على الوضع، و”سيحصل الإنفجار”. وإذا ما شددت قبضتها، فهذا أيضاً يمكن أن “يؤدي إلى الإنفجار”. ونتيجة لذلك، تخشى المنطقة أي تغييرات، مما “يزيد تخلفها عن البلدان الأخرى”، وتتزايد المشاكل، التي لا يتولى أحد حلها، والتي يمكن أن تؤدي، في نهاية المطاف، أيضاً “إلى الإنفجار”. ويختتم الرجل لوحته السوداوية للمنطقة بالتأكيد، أنه ينبغي أن تظهر طليعة ما، زعيم أو جماعة ما، تمتلك رؤية محددة للطريق، التي ينبغي سلوكها.
المصدر: المدن