يجب أن تكون القيادة الأميركية قد وضعت نوعًا من سجل جديد عندما قامت بتوجيه إهانات شخصية لقادة القوتين العظميين الأخريين في العالم، في غضون 48 ساعة من بعضهما بعضا، في هذه الأيام الأولى من عمل فريق السياسة الخارجية لإدارة بايدن. وقد تصرفوا كما لو أنهم من خريجي “مدرسة سحر دونالد ترامب”.
من المدهش، ببساطة، أن يعمد الرئيس بايدن، تماماً عند الاقتراب من وضع مسار جديد للعلاقات مع روسيا، إلى أن يصف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأنه “قاتل” ويفتقر إلى “الروح”.
ومن المدهش بالمثل أن يتم اختيار لحظة مفتاحية مهمة في علاقتنا الدقيقة مع الصين لاستخدام لغة مهينة مماثلة. هل اعتقد بلينكين أن إظهار هرمون الذكورة في أول اجتماع رفيع المستوى لقيادة السياسة الخارجية الخاصة ببكين سوف يساعد على تحقيق الأهداف الدبلوماسية التي تسعى إليها واشنطن؟ ويتساءل المرء عمن هو الطرف الذي كان وزير الخارجية يحاول التأثير فيه وجذب انتباهه: بكين أم الجمهور المحلي في الولايات المتحدة؟
للولايات المتحدة بلا شك مواطن شكواها الخاصة من الصين، ولدى الصين بالمثل العديد من المظالم التي تتعلق بالولايات المتحدة. لكن من المؤكد أن هذه اللغة من الشتائم والاتهامات غير ناضجة وتؤدي إلى نتائج عكسية فيما يتعلق بمستقبل العلاقات الأميركية الصينية -أو العلاقات الصينية الروسية، إذا كان ذلك يهُم.
وما هي الرسالة التي ترسلها هذه التصرفات إلى قادة العالم الآخرين؟ إنها تثير تساؤلات جدية حول مهنية ورؤية قيادة الإدارة الجديدة، وحول ما إذا كانت واشنطن ستظل بعد الآن مسؤولة -أو قادرة على “القيادة العالمية” التي تتحدث عنها بلا توقف.
عندما يبدو أن كلاً من الرئيس الأميركي ووزير خارجيته اختارا مثل هذه المقاربات سيئة المشورة تجاه روسيا والصين، فمن المؤكد أن ذلك سيجعل العديد من البلدان الأخرى مترددة تمامًا في الموافقة على رؤية وأسلوب أميركيين للقيادة العالمية.
وتبدو درجة النفاق بشأن “القتل” أو “التدخل الأجنبي” مقلقة بالمقدار نفسه، إن لم تكن قصر نظر من الأساس. فقد أظهرت سياسات الولايات المتحدة على مدى الأعوام العشرين الماضية أو أكثر استعدادًا كبيرًا لقتل الآخرين بأعداد كبيرة في جهود فاشلة لتحقيق أهداف سياسية، والتي أخفقت بشكل مذهل في كل حالة تقريبًا. فكِّروا فقط في مئات الآلاف من المدنيين العراقيين، والسوريين، والصوماليين، والليبيين، والإيرانيين، والأفغان والباكستانيين الذين يُنظر إليهم على أنهم أكثر بقليل من مجرد “أضرار جانبية” في التدخلات العسكرية الأميركية التي لا تنتهي -ناهيك عن الاغتيالات الأميركية لمسؤولين أجانب رفيعي المستوى، مثل الجنرال الإيراني قاسم سليماني الذي ربما يكون أيضًا المسؤول العام الأكثر احترامًا في إيران.
يتحدث أنتوني بلينكين، بلا أي شعور بالحرج على ما يبدو، عن الولايات المتحدة باعتبارها الدولة التي تدعم “سيادة القانون عالميًا”، في خداع تام للذات أو اعتقاد خائب بأن هذا هو واقع الحال. وفي الواقع، توقعت واشنطن دائمًا من الدول الأخرى أن تدعم سيادة القانون الدولي -ولو أنها تستثني أصدقاءها الجيدين مثل إسرائيل وبعض حلفائها العرب في المنطقة. وتدافع الولايات المتحدة بشكل ثابت عن “استثنائيتها” عندما يتعلق الأمر بعدم الالتزام بالقانون الدولي عندما يتناسب ذلك مع مصالحها. ويشمل ذلك الاغتيالات الخارجية، وشن العديد من الحروب من دون إذن على المستوى الدولي، وتحريض “الثورات الملونة”، ورفض المصادقة على اتفاقيات الأمم المتحدة لقانون البحار أو حقوق الطفل، أو احترام الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية. ومن الصعب أن نفهم كيف يشعر بلينكين بالراحة عندما يلقي محاضرة على الصين بشأن إخفاقاتها المحلية، في وقت لا يمكن أن تقدم فيه الديمقراطية والسياسة الاجتماعية الأميركية وجهًا أكثر ضررًا للعالم.
من المؤكد أن مثل هذا الاعتقاد بالصلاح الذاتي من جانب الإدارة يظهر نقصًا في الجدية والنزاهة بشأن تاريخ الولايات المتحدة ومواقفها. أو، الأكثر إثارة للقلق، أنه يشير افتقار واشنطن إلى أي قدرة على تأمل الذات أو الوعي بالذات.
في النهاية، ربما تكون هذه المواجهة الدبلوماسية الأولية رفيعة المستوى أكثر إقلاقاً بالنظر إلى الآمال الكبيرة التي خالطت العديد من الأميركيين بأن الكثير من مشاكلنا ستختفي مع رحيل دونالد ترامب -بدلاً من إجراء فحص سيكون مؤلماً بالضرورة للعيوب الراسخة المتأصلة عميقاً داخل النظام الأميركي.
ربما أكون مخطئًا في إبداء هذه الملاحظات القاسية. ربما يؤدي قدوم مسؤولي الإدارة بقوة بينما تومض كل المسدسات والبنادق -على غرار رعاة البقر في هوليوود- في هذه المواجهات العامة الأولى، إلى جعل موسكو وبكين تقفان وتفكران، بل وربما تتراجعان قليلاً. لكنني أشك في ذلك. أخشى أن هذين الحدثين المرتبطين إنما يدقان ببساطة بعض المسامير الإضافية في نعش التطلعات الأميركية العزيزة إلى القيادة والهيمنة على الصعيد العالمي. وفي هذه الحالة، قد نكون أخطر عدو لأنفسنا إذا واصلنا النظر بحنين إلى الهيمنة الأميركية السابقة. تلك الهيمنة العالمية التي تصبح على نحو متزايد، للأفضل أو الأسوأ، شيئًا من الماضي. إن ما يفعله هؤلاء المسؤولون إنما يَعرض فشلاً في إدراك الظروف الفريدة التي صادَف أن لعبت فيها أميركا دورًا عالميًا إيجابيًا كبيرًا فور انهيار أوروبا واليابان والصين بعد المحنة الوحشية التي صنعتها الحرب العالمية الثانية. ويمكن قول إن هذه الظروف لن تعود، ما يعني أن الولايات المتحدة ستواجه واقعًا مستقبليًا غير مريح على الإطلاق، والتي يبدو أنها غير مستعدة له من الناحية النفسية.
لدى هذا البلد حقاً بعض الأسباب للاعتزاز بنظامه الديمقراطي -غير المتسم بالكمال. وليس أيُّ من مثل هذه الأنظمة الديمقراطية مثالياً بأي حال. ومع ذلك، ما مقدار التأمل الذي يتطلبه الأمر للاعتراف بما حققه “الحزب الشيوعي الصيني” في الأعوام الثلاثين الماضية؟ هل هناك ما هو أجدر وأفضل من إخراج نصف مليار شخص من ربقة الفقر ورفعهم إلى مستوى حياة الطبقة الوسطى في غضون جيل واحد فقط؟ أم أن الأكثر جدارة هو الحفاظ على نظام انتخابي أميركي يظهر فيه القادة العاديون أو السيئون بالسهولة نفسها التي يظهر بها القادة الجيدون؟ لا ينبغي أن تنطوي أي محاولة تعريف ما يشكل الحكم الصالح، سواء كان ذلك في الصين أو أميركا، على جواب جاهز مسبقاً؛ فهذه مسألة تعتمد أكثر على القيم التي يعتنقها المرء. لكن السؤال ينبغي أن يستدعي، على الأقل، قدرًا من التواضع قبل أن تنخرط واشنطن في صراع معلن مثير للشك مع قوة أجنبية كبرى حول أشكال بديلة من الحكم.
في نهاية المطاف، من غير المرجح أن تتطور تحسينات في أشكال الحوكمة الصينية -كما فعلت على مدى أكثر من الأعوام الثلاثين الماضية- عند عقد مقارنات أو إعلان ادعاءات مهينة لأداء منافس -خاصة عندما نتحدث عن السياسات المحلية الصينية في كثير من الحالات- بينما نغض النظر ونمنح رحلة مجانية لأصدقائنا المستبدين بشدة.
إن الولايات المتحدة دولة تمتلك مواهب غير عادية من الإبداع والطاقة. ومع ذلك، في هذه المرحلة، يبدو أن نظامها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي يقف متأرجحاً على تقاطع، في بحث مكلف وموجب للاستنطاق عن تحقيق هيمنة عسكرية عالمية كاملة.
والمأمول هو أن يتم استخلاص بعض الدروس المستفادة من هذه التجربة المبكرة الأولى غير الناضجة والعاطفية بطريقة مميزة لإدارة بايدن في دبلوماسية روسيا والصين رفيعة المستوى.
*Graham E. Fuller: مسؤول كبير سابق في وكالة المخابرات المركزية، ومؤلف العديد من الكتب عن العالم الإسلامي. كتابه الأول هو “كسر الإيمان: رواية تجسس وأزمة ضمير أميركي في باكستان”، تلاه “رواية عن العنف البيئي في شمال غرب كندا”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Hell hath no fury like a superpower in decline
المصدر: الغد الأردنية/(ريسبونسيبل ستيتكرافت)