في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي أعلن الرئيس التركي تعيين حسن مراد ميرجان السفير التركي في العاصمة اليابانية والنائب السابق عن حزب العدالة والتنمية وأحد مؤسسيه سفيرًا جديدًا للجمهورية التركية في واشنطن.
أثار القرار حالة من النقاش عن موقع بيروقراطية وزارة الخارجية ودورها في عملية صنع القرار، فمن المتعارف عليه أن منصب السفير في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية يعد من المناصب المهمة التي تشكل استحقاقًا يسعى دبلوماسيو أو موظفو وزارة الخارجية للوصول إليها، وذهابها باتجاه شخصيات سياسية قادمة من خارج الوزارة دفع عدد من السفراء والدبلوماسيين السابقين إلى نقل امتعاض وغضب زملائهم من القرار.
على مدار الـ19 سنة الماضية مرت العلاقة بين وزارة الخارجية وحزب العدالة والتنمية بعدد من المراحل والمتغيرات التي طغى عليها سعي الحزب لضبط وإخضاع بيروقراطية الوزارة المعروفة بتماسكها وحضورها القوي عبر ضخ وتمكين كوادر الحزب من مفاصلها.
وزارة الخارجية وتقاليد البيروقراطية التركية
على مدار سنوات الجمهورية، احتفظت وزارة الخارجية بموقع مميز في منظومة البيروقراطية التركية، فساهم ابتعاد الأحزاب التركية عن القضايا الخارجية وتركيزها على الملفات الداخلية في احتفاظ الوزارة بموقع المقرر في قضايا السياسة الخارجية، وحافظت الوزارة على تقاليد داخلية مضبوطة بقوانين ولوائح داخلية ضابطة لعملية الترقية والتوظيف، ما مكن الوازرة من البقاء بعيدة عن آثار التغيرات السياسية في الحكومة والوزارة.
تقاليد بيروقراطية الخارجية شكلت عائقًا في مراحل تاريخية أمام الإرادة السياسية لإنفاذ توجهاتها على صعيد السياسة الخارجية، كما جرى مع رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية لاحقًا تورغت أوزال الذي رأى في انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال الجمهوريات التركية في وسط آسيا فرصةً يمكن المراكمة عليها لمنح تركيا دورًا جديدًا في عالم ما بعد الحرب الباردة.
لكن اختلاف وجهات النظر مع كوادر الخارجية التي اعتادت العمل وفقًا لتقاليد محافظة، دفع أوزال للبحث عن أدوات جديدة للتعامل مع هذا التحدي كتأسيس وكالة التعاون والتنسيق “TİKA” التي عملت بموازاة وزارة الخارجية في هذه المناطق.
لكن غياب أوزال عن المشهد السياسي ودخول تركيا في دوامة الحكومات الائتلافية في تسعينيات القرن الماضي ساهم في احتفاظ وزارة الخارجية بموقعها المحصن والمميز في المنظومة البيروقراطية الذي استطاعت تحصينه بفرض شروط متعددة على عملية التوظيف والقبول في كادر الوزارة.
وعلى الرغم من عمليات الاصطفاء المتعددة التي يخضع لها كادر وزارة الخارجية، فإنها أصبحت هدفًا لجماعة فتح الله غولن التي استطاعت اختراق عدد من المواقع داخل الوزارة، فخلال الفترة بين 2010 و2013 تلاعبت عناصر من منظمة غولن باختبارات القبول في الوزارة عبر تسريب إجاباتها، بالإضافة إلى تزوير اختبارات اللغة الأجنبية كما أوضحت التحقيقات لاحقًا، فتم توقيف أكثر من 300 شخص على خلفية هذه التحقيقات.
إشكاليات وأدوات جديدة
لسنوات طويلة احتكرت وزارة الخارجية التركية التعامل مع القضايا الخارجية، لكن تفجر الربيع العربي وانهيار الأمن في عدد من الساحات المحيطة ودخول الدولة التركية في علاقة مع جهات دون الدول، استلزم أنماطًا جديدةً من العلاقات تتجاوز الصور التقليدية التي تديرها وزارة الخارجية وموظفوها.
تزامن ذلك مع ازدياد دور جهاز المخابرات الوطني “MİT” الذي بدأ في استحداث بنى جديدة للتعامل مع هذه الملفات، ففي العام 2010 تم تأسيس “وحدة تحليل الاستخبارات الخارجية” وكلفت بمهام ذات صلة بالسياسة الخارجية، وفي عام 2018 تضمن تقرير أنشطة جهاز المخابرات العامة التركية لأول مرة فقرات تتحدث عن “دبلوماسية المخابرات” ويقصد بها إدارة العلاقة مع أجهزة مخابرات الدول التي تشهد العلاقة معها تراجعًا في الاتصالات الدبلوماسية كالعلاقة مع أجهزة مخابرات النظام السوري والدولة المصرية.
فقد لعبت أجهزة مخابرات البلدين دورًا أساسيًا في إدارة العلاقة الثنائية بينهما وتحسينها لاحقًا، وهذا ما أكده الرئيس التركي خلال خطابه في افتتاح المقر الجديد لجهاز المخابرات المسمى “قلعة” بتأكديه دور الجهاز الذي يتعدى المسائل المتعلقة بالمعلومات وجمعها وصولًا إلى إدارة علاقات دبلوماسية مع عدد من الأجهزة والهيئات.
كما أشاد الرئيس بدور الجهاز في الملف الليبي والملفات الأخرى التي يلعب فيها الجهاز دورًا محوريًا كإدارة العلاقة مع فصائل الثورة في سوريا.
وبالإضافة إلى تصاعد دور المخابرات العامة الخارجي، شهدت هذه الفترة ظهور لاعبين جدد في ملف إدارة السياسة الخارجية كحزب العدالة والتنمية، إذ نشطت بعض كوادر الحزب في القضايا الخارجية ومارست تأثيرًا على عملية صنع القرار مستغلة علاقاتها مع القوى والأحزاب الأخرى التي رأت في الحزب شريكًا على المستوى الأيديولوجي كالحركات الإسلامية.
كما أثر الحزب من خلال المؤسسات البحثية التي تدور في فلكه، كمؤسسة الأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية “SETA” التي تلعب دورًا مهمًا على صعيد تقديم الاستشارات وتصدير الكوادر لمختلف مؤسسات الدولة، فرئيس مركز الدراسات الإستراتيجية “SAM” التابع لوزارة الخارجية أفق أولوتاش – تم تداول اسمه كسفير تركي في تل أبيب رغم عدم وجود خبرة دبلوماسية سابقة له – جاء من مؤسسة “سيتا”، كما أن الناطق باسم الرئيس التركي إبراهيم كالن ومسؤول الإعلام والاتصال في الرئاسة فخر الدين ألتون جاءا من ذات المؤسسة.
وإلى جوار ذلك، ازداد نشاط المؤسسات الأهلية المقربة من الحزب في مجال الإغاثة الدولية، كهيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات “İHH” التي لعبت دورًا مهمًا في أكثر من دولة وقضية.
النظام الرئاسي والقادمون من الخارج
على مدار السنوات التي سبقت إقرار النظام الرئاسي في تركيا، نظمت عمليات الترقية والتعيين في بنية الوزارة من خلال قوانين ولوائح داخلية ضمنت حرصها على كوادر الوزارة، هذا الأمر جعلها هدفًا لحزب العدالة والتنمية الذي رأى في وزارة الخارجية صندوقًا يجب فتحه والتعامل معه، وفور إقرار النظام الرئاسي تم دمج وزارتي الاتحاد الأوروبي والخارجية، كما تم إلغاء قانون “التشكيلات” ليفتح المجال أمام ظهور التعيينات الاستثنائية أو القادمة من الخارج “dışarıdan atanması”.
أثارت هذه التعيينات جدلًا داخليًا خاصة أن غالبية القادمين من الخارج هم من كوادر حزب العدالة والتنمية أو من المقربين من الرئيس التركي، ما دفع المعارضة لمهاجمتها واصفة إياها بالتعيينات السياسية، وهو ما رد عليه وزير الخارجية بالدفاع عن المعينين ووصفهم بالأكثر نجاحًا من بين زملائهم الدبلوماسيين والعاملين في سلك التمثيل الخارجي.
ووفقًا لبعض التقديرات فقد بلغ عدد المواقع التي يتم من خلالها تمثيل تركيا عام 2019 ما يقرب من 243 موقعًا، 10% من شاغليها معينون بطرق استثنائية، فيما تذهب تقديرات أخرى إلى أن نسبة هؤلاء تصل إلى 15%، ومن أهم الأسماء التي يجري النقاش عنها السفير التركي في واشطن حاليًّا وطوكيو سابقًا حسن مراد ميرجان والسفير التركي في قطر مهمت جوكسو القادم من مجال الأعمال وشقيق رئيس بلدية أسنلار ورئيس أعضاء حزب العدالة والتنمية في مجلس بلدية إسطنبول توفيق جوكسو والسفيرة التركية في العاصمة الماليزية مروة قاوقجي عضو البرلمان السابق عن حزب الفضيلة، والسفير التركي في بكين عبد القادر أمين أونان عضو مجلس النواب السابق عن حزب العدالة والتنمية وغيرهم.
ويرى البعض أن تعيين هؤلاء مرتبط برغبة الرئيس في تنمية العلاقة مع هذه الدول من خلال توفير خط اتصال ساخن بين هؤلاء السفراء ومؤسسة الرئاسة يتجاوز التعقيدات الإدارية والبيروقراطية.
لم تقتصر التعيينات الخارجية على الجهاز الدبلوماسي، بل وصلت إلى مركز الوزارة في أنقرة، ففي عام 2019 شهدت تركيا حالة من النقاش على خلفية تعيين بكير غيزير في منصب إدارة الخدمات الإدارية في الوزارة، وعلى الرغم من السيرة الذاتية القوية التي يتمتع بها بكير، فإن قدومه من خارج بيروقراطية الوزارة وتوليه منصبًًا حساسًا جعله هدفًا للمعارضة وكادر الوزارة، ما دفع الوزير مجددًًا للدفاع عن بكير ومؤهلاته.
ختامًا، ساهم النظام الرئاسي المقر في تركيا بعد استفتاء 2017 في تعزيز مركزية الرئيس وفريقه في عملية صنع القرار داخل النظام السياسي التركي، فجزء أساسي من توجه الرئيس التركي الحاليّ نحو النظام الرئاسي يرجع إلى رغبته بتجاوز الإشكاليات المتوقع الوقوع بها نتيجة التوجه نحو الحكومات الائتلافية وما يحمله من تزايد قوة “الوصاية البيروقراطية”.
وفي ظل النظام الرئاسي برز فريق الرئيس كمكون أساسي في عملية صنع السياسة الخارجية بصورة تتجاوز في بعض الأوقات موظفي الوزارة كما هو الحال مع الناطق باسم الرئيس إبراهيم كالن الذي تصاعد دوره وحضوره في السنوات الماضية، هذا الأمر دفع بعض الدبلوماسيين الأتراك إلى إرجاع ضعف السياسة الخارجية التركية لتراجع دور الخارجية التي شكلت لسنوات طويلة مستودعًا للخبرة كون كوادرها وهيئاتها الأكثر احتكاكًا وخبرةً على الصعيد الخارجي على خلاف الوجوه الجديدة الصاعدة.
ورغم أهمية ورجاحة الآراء القائلة بضرورة إضعاف الوصاية البيروقراطية وتمكين الإرادة السياسية للشعب التركي من تنفيذ برامجها وتوجهاتها السياسية، فإن إضعاف وزارة الخارجية وتسيس كوادرها ومواقعها الوظيفية يساهم على المدى الطويل في حرمان الجهاز البيروقراطي من قدرته على مراكمة الخبرات والقدرات ويجعله عرضةً لتقلبات السياسة التي نأى بنفسه عنها لسنوات طويلة.
المصدر: نون بوست