يلاحظ المتمعن بشأن السياسة الأميركية تجاه الملف النووي الإيراني كيف تحولت الولايات المتحدة الأميركية من نقيض إلى نقيضه عبر ثلاث مراحل رئاسية بدءا بإدارة أوباما، تلك الإدارة التي أبرمت الاتفاق النووي الإيراني، مرورا بإدارة ترامب الذي نقض الاتفاق وصولا إلى إدارة جو بايدن التي تسعى اليوم لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، تلك الإدارة التي تخضع لها العديد من الأطياف السياسية المختلفة بين التأييد والمعارضة كالجناح الليبرالي في الحزب الديمقراطي الداعم لرؤية بايدن في إحياء الاتفاق النووي الإيراني والحزب الجمهوري المعارض تماما لرفع العقوبات عن إيران حتى يتم التأكد من تخلي إدارة حسن روحاني عن حلمه النووي.
رغم انسحاب الرئيس الأميركي السابق ترامب من الاتفاق النووي مع إيران أدى إلى تقليص نطاق المحادثات من منصة 5+1 وهي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا إلى منصة 4+1، دون وجود الولايات المتحدة الأميركية، وهي اليوم المحرك الأول والأهم في هذا الملف الشائك، رغم أنها خارج الاتفاق النووي.
رغم ذلك، فإن رؤية الولايات المتحدة الأميركية للاتفاق النووي هي من سيحكم الأحداث في الأيام المقبلة، حيث خيار التمسك بما كان يدور بالموقف خلال إدارة ترامب أو فتح فصل جديد بهذا الشأن في عهد الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن الذي لم يتأخر ضمن المعطيات اللوجستية من تسديد ضرباته الأخيرة في الشرق السوري؛ حيث تم تسديد الضربات لميليشيات مدعومة من الجانب الإيراني، وكانت تلك الضربة أولى رسائل بايدن للنظام الإيراني وللكرة الإيرانية المتدحرجة.
وثمة سؤال في الخاطر حول ماهية التغير السياسي الأميركي على الأرض وكيفية التعبير عن الموقف حيال الملف النووي الإيراني، ذلك التغير في الموقف الأميركي والتحول السياسي في العلاقة الأميركية بالملف النووي الإيراني، وهل ستتمكن واشنطن من إدراك الخطوة التي يمكن من خلالها فتح الباب أمام ايران للدخول إلى مفاوضات جادة تفضي إلى حل سلمي للأزمة النووية الإيرانية، حيث يرى الجانب الإيراني أن الولايات المتحدة الأميركية عليها أن تبتعد عن موضوع المفاوضات وأن تقوم بواجباتها وما عليها القيام به وتحديد نيتها في المضي قدما واستيفاء واجباتها نحو قرار مجلس الأمن 2231 وخطة العمل المشتركة.
الجانب الإيراني يرى أن الولايات المتحدة الأميركية تنتهك خطة العمل المشتركة وقرار مجلس الأمن 2231، أضف الى ذلك أن إيران في تعاملها مع هذا الملف تحديدا لا تخفي رغبتها في عودة الطرف الأميركي لتنفيذ الأمور التي وافق عليها الجانب الأميركي في 2015 خلال المفاوضات التي انتهت بإبرام خطة عمل مشتركة بين الطرفين، ولا تخفي أيضا إيران إصرارها على رفع العقوبات لتقدم إغراءها نحو التنفيذ الكامل على النحو المتفق عليه.
من الجهة الثانية، ما يزال الجانب الإيراني يطالب وبشدة بخطوة أميركية حاسمة لتنفيذ اتفاق 2015، ويرى بعض الباحثين في السياسة الإيرانية أن الموقف الإيراني مع ترامب كان يتسم بالاستفزاز، أما مع جو بايدن فقد اتسمت السياسة الإيرانية بالتصعيد، وتعلل طهران سياستها التصعيدية المقابلة للسياسة الأميركية بسبب إرسال واشنطن كل أنواع الأسلحة والأساطيل نحو أماكن تبعد نحو 7 آلاف ميل عن القارة الأميركية، أضف الى ذلك الاغتيال الذي تم تنفيذه لسليماني، وهو الذي جاء بعد تصعيد نما وتصاعد في الأوساط السياسية الأميركية. ولعل ما حدث في الثالث والعشرين من فبراير حول منع المفتشين الدوليين من متابعة ما يحدث في المنشآت النووية الإيرانية ما هو إلا إجهاض لكشف ملابسات وحقيقة كميات التخصيب التي تجري في المنشآت النووية الإيرانية، ففي 2015 كان من المسموح لإيران أن تقوم بتخصيب ما يبلغ 3.67 %، أما الآن فإن إيران تقوم بتخصيب ما يبلغ 20 %، وهو ما تسمح به المادة 36 من خطة العمل المشتركة. بعض المصادر تقول إن تخصيبها يصل إلى 60 %. وكما نعلم في الآونة الأخيرة أن لقاء رفائيل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي زار طهران لبحث «أنشطة التحقق الضرورية» الخاصة بالوكالة، برئيس مؤسسة الطاقة الذرية، تضمن تعبير الجانب الإيراني عن رغبته حول تنفيذ البرنامج النووي الإيراني السلمي، وكذلك تضمن فرصة التواصل مع المفتشين ولقائهم في إيران كما صرح الجانب الإيراني.
والتقى رفائيل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، عندما زار طهران لبحث «أنشطة التحقق الضرورية» الخاصة بالوكالة، برئيس مؤسسة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي، بحسب وسائل إعلام إيرانية رسمية.
وقد صرح ظريف آنذاك بالقول «سنتحدث إلى السيد غروسي حول احترام قوانين بلادنا.. لكننا في الوقت نفسه لن نضع العراقيل أمام مواصلته لمهام عمله في تنفيذ الالتزامات التي تظهر أن البرنامج النووي الإيراني سلمي».
على الصعيد الإيراني، فإن طهران تعيش الضغوط السياسية حول ملفها النووي، تلك الضغوط التي دفعتها إلى مطالبة الوكالة الذرية وعقد اتفاق معها على رفع العقوبات خلال ثلاثة أشهر، وإذا ما أمعنا النظر في المشهد السياسي، فإننا سنجد أن الضغوط الداخلية تدور في الجانبين الأميركي والإيراني حيث تتواجد الضغوط الأميركية في الأوساط السياسية الأميركية، وكذلك تحضر الضغوط الإيرانية في الأوساط السياسية الإيرانية، وهو ما يفسر التصريحات المتضاربة في الجانب الإيراني، ما تسبب في كثير من الأحيان بعقبات لفهم الموقف الإيراني الحقيقي، أضف الى ذلك أن الجانب الإيراني يعيش حيرة حقيقية بين الأزمة الاقتصادية ومسألة الموافقة على التفاوض، ذلك التفاوض الذي سيؤدي بالمساس بالمشروع الإستراتيجي للسيطرة على الإقليم من خلال الطموح النووي المتنامي، ولربما تسهم سرعة العودة الأميركية للاتفاق ورفع العقوبات عن إيران في علاج التوتر السياسي الدائر بين الطرفين لتتضح الشروط والخيارات الدولية في التفاوض.
أما أوروبا المنسق الذي يسعى إلى رأب الخلاف وعودة الطرفين إلى الاتفاقية والالتزام بها وإعادة خطة العمل المشتركة إلى الطريق الصحيح، فإنها لم تترك الدبلوماسية جانبا لصعوبة الحل حيث معضلة الحسم في بدء الخطوة الأولى، وجلب الجميع للطاولة، تلك الطاولة التي لم ينف بايدن رغبته في الجلوس عليها مع الجانب الإيراني متناولا بين يديه خطة العمل المشتركة، تلك الخطة التي سيقوم وفريقه على تعديلها والاحتفاظ بها، وهنا يجدر بنا أن تتساءل هل تتفهم أوروبا حقا رغبة الجانب الإيراني بتخفيف العقوبات وهل ستلعب دورا حقيقيا في ذلك، وهل ستتمكن حقا من إحياء خطة العمل المشتركة وتحقق ثقلا سياسيا مؤثرا على إيران لجرها إلى الالتزام وإعادة الوضع لما كان عليه قبل انسحاب إدارة ترامب بشكل أحادي؟
لعل الهندسة الدولية الرامية إلى منع إيران من الحصول على الأسلحة النووية لضمان استقرار المنطقة تدرك، من خلال الأطراف المؤثرة دوليا، أهمية الاتفاق والمفاوضات حول المسألة الإيرانية النووية رغم معارضة الجمهوريين لرفع العقوبات ومعارضة المحافظين في الحزب الديمقراطي. استغلال الزخم الدبلوماسي لإحياء خطة العمل المشتركة باعتبارها جزءا مهما لا يمكن تهميشه إطلاقا من هندسة الحد من انتشار الأسلحة وتحقيق الاستقرار في المنطقة سيكون حاضرا في الأيام المقبلة، حيث تلمع تحت الضوء رغبة الأوروبيين في نجاح بايدن في علاقته مع إيران رغم وضوح بايدن منذ اليوم الأول حول الملف الأميركي الإيراني.
مما لا شك فيه أن التحالف الأوروبي سيلعب دوره الدبلوماسي النشط حيال الطرفين حيث السعي الأميركي الحثيث للتواصل الصحيح والمفيد مع الجانب الأوروبي وتعزيز الشراكة الأميركية مع الأطلنطي لمواجهة التحديات المختلفة في الشرق الأوسط والخليج الفارسي وكذلك الدفاع المشترك الذي بدفع بأميركا للعودة لخطة العمل المشترك مع أوروبا. كل تلك المعطيات تجعل من الجانب الأوروبي محركا حيويا له تأثيره وثقله السياسي.
رفض أربعون عضوا من الجمهوريين رفع العقوبات عن إيران حتى يتم التأكد من تخلي إيران عن حلمها النووي لن يدفع بايدن في الأيام المقبلة إلى التعامل السريع مع هذا الملف، فهو بالنسبة له الأهم والعودة للاتفاق من وجهة نظره إنجاز كبير في الوقت الذي اعتبر بعض الأميركيين انسحاب ترامب من الاتفاقية النووية بمثابة الهزيمة من حيث الأولويات السياسية التي تتغير بتغير الواقع السياسي والجيوسياسي والعوامل الأخرى التي تتدخل بطرق آنية في الأوضاع القائمة. فالمعطيات اليوم اختلفت تماما عن تلك التي كانت متوافرة في 2015، قد يتعذر على بايدن وضع عقوبات أحادية الجانب، فالعقوبات السابقة كانت مدمرة على إيران، إلا أنها لم تكن كفيلة بتغيير النظام أو السلوك، وهو الأمر الذي ينظر إليه كثيرون على أنه الحل الأوحد لتخلي إيران عن طموحها النووي.
بايدن سيسعى بالتأكيد إلى التفاوض مع إيران ضمن ثلاثة محاور مهمة وحيوية، وهي دعم الإرهاب في اليمن والصواريخ الباليستية والنشاطات العسكرية في العراق وسورية، ولربما أن المخاوف الأميركية والإسرائيلية من تحقيق الهيمنة الإيرانية الإقليمية من خلال الحصول على السلاح النووي برزت بسبب الإيديولوجية الإيرانية التي لم تتغير، فنشاط المخابرات الإسرائيلية بتزويد الجانب الأميركي بالمعلومات المطلوبة عن النشاط النووي الإيراني ما هو إلا علامات قلق حقيقي حول ذلك الملف، ورغم ذلك القلق فإن الجانب الأميركي يستبعد تماما الإطاحة بالنظام الحاكم في إيران رغم الأوساط العربية المنزعجة ورغم أن السياسة الأميركية الداخلية ما هي إلا محرك للسياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية، يبقى السؤال الأقوى هل سيتمكن بايدن من الإبحار في هذا الخضم المتناقض والمتقلب بين الأوروبيين والجمهوريين والمعارضة الإقليمية والجناح الليبرالي للحزب الديمقراطي الداعم للمقاربة؟، وكذلك الأمر هل سيقوم بايدن بذلك من دون أي تعقيدات؟ فالمواضيع معقدة وهناك معطيات قائمة تلعب دورا في هذا الملف كالمناورات التركية والانتخابات الإسرائيلية. لا يبدو الأمر سهلا، وثمة أمر أهم؛ ألا وهو أن الانقسام الأميركي الواضح في المراحل الرئاسية التي توالت لن يكون من المستحيل أن يتكرر في الأعوام المقبلة إزاء الملف النووي الإيراني.
المصدر: الغد الأردنية