الثورة السورية ومعاندة أعاصير الاقتلاع

أيمن أبو هاشم

تنبئ مرويات التاريخ عن ثورات كلفت شعوبها ما يفيض عن طاقة احتمالها، مع ذلك لم تتوقف حركات التمرد والاحتجاج على مظالم الحكام وقوى الطغيان، منذ ثورة الجياع في مصر القديمة، وحتى ثورات وانتفاضات زمننا المعاصر.

بيدَ أن ما استفاقت عليه الشعوب العربية اليوم، والسوريون ” مثالهم الأعتى” يتجاوز كل التصورات المسبقة عن كلفة الثورات، ويطرح على حاملي مشاريعها، وراياتها تساؤلات كبيرة وملحة حول جدوى الكفاح الوطني والإنساني، في عالم محكوم بلغة القوة العارية، ومدجج بأسلحة المصالح المتوحشة، وموغل في هدم كل متاريس الدفاع عن ضحايا الظلم البشري..!؟.

تتخذ تلك التساؤلات القلقة دلالاتها الوجودية، في غمرة اليأس من أوطان تئن بأوجاع لا تحتمل، بعد أن كانت ساحاتها وشوارعها تنبض بحلم الحرية والكرامة، لا يجد أبناءها ما يخفف من سطوة آلامهم سوى استنفاذ ما تبقى من قدرتهم على الصبر والتحمل.

في لحظات الموت المًستباح بكافة أشكاله المادية والمعنوية – كحال مأساتنا السورية – فإن تمادي المجرمين والقتلة دون ردود أفعال عملية تدفع شرهم المستطير، يزيد من عسف المتوالية القهرية للواقعين في شباكها، وهم يواجهون صيرورة الهلاك التي تطحن أجسادهم وأرواحهم. هنا يسقط العالم، ويتوارى خلف صرخات الأمهات الثكالى، والأطفال الجياع، ودموع الرجال، ومعه يترنح عالم الأفكار والثورات واليقينيات، ويصبح البحث عن ملاذ آمن، وغطاء دافئ وأقل ما يسد الرمق، أقصى أمنيات الفقراء الهائمين على الحدود الفاصلة بين الموت، والنجاة.

ليس وحده صوت القذائف والصواريخ ما يصمُ الآذان، عن سماع ما تتناقله شاشات الأخبار عن مسلسل النفاق الدولي. ثمة ما يزعزع اليقين بكل هذا العالم المتبلد، الذي يضج بالمقارنات الصاخبة، كتلك التي استحال شعباً تجرأ على الطموح بحياة أفضل، إلى أقسى درس في الانتقام الجماعي، وأعتى ضريبة في تفكيك قضيته النبيلة إلى شظايا هويات قاتلة.

وضعية فريدة في مأزقها الوجودي، كلما طوت الثورة السورية عاماً؛ أثخنته جراح الصمت والتنكر والخذلان، واجه المتشبثون بالحرية بلا هوادة، مخاطر مسلسل التآمر والتنكر. وأدركوا أن قضيتهم عالقة بين أحقاد الأعداء وحسابات الأصدقاء، وبين مطاحن المصائب والخيبات

هكذا أصبح السوريون، العنوان الجامع والكاشف، عن محنة الزمن العربي، عن أمة تدفع اليوم من لحم أبنائها، ثمن صمتها الطويل على فواتها التاريخي، عن أوطان يرمز البسطار العسكري إلى هويتها المغدورة، وعن حكام لا حدود لخيانتهم وإجرامهم دفاعاً عن بقائهم. وثمن مؤجل  لشعوب ورثت الخوف والجهل والعصبية، من سدنة الاستبداد السلطوي والديني والطائفي.

قلّة شجاعة كسرت قاعدة التدجين، ونهضت كي تنجو من أغلال وقيود واقعنا المُهين، وعندما حاولت نشر عدوى التغيير بين الجموع المُستكينة، استنفر محور الشر العالمي وأطلق وكلائه المحليين، وتعددت وسائل الهمجية مع مخططات التآمر للقضاء، على سردية الربيع العربي وهي في مرحلة تبرعمها. سورية التي لديها من التاريخ والموقع والموارد والطاقات ما يؤهلها – أن تكون بجدارة – قوة الدفع المركزية في تغيير الواقع العربي، تحالفت عليها وحوش الرأسمالية والعولمة، مع المافيا السلطوية في إيران وروسيا، لتحويل الثورة السورية من مشروع تحرر ونهوض، إلى مأساة العصر الكبرى، وتلقين الشعوب العربية  درساً سورياً مروعاً، في التأديب، والتدجين، والخنوع الأبدي.

لم يكن الشوط الكبير الذي قطعه محور الشر العالمي، في بحور الدم السوري، أقصر من خطواتهم نحو كسر فكرة الثورة، في عقل ووجدان جمهورها قبل أعدائها. تهافتوا كلٌ وفق أجندته، على إفساد الثورة، وتشويه صورتها، والنيل من مشروعيتها، وتبدى الأشد خطورة في تحريف مسارها، واستغلال حالة الفوضى الناجمة عنها، بهدف اختراق بناها ومكوناتها، توطئةً لاستيلاد بؤر الثورة المضادة، من وحي تناقضاتها وانقساماتها. تراكبت تلك السياسات وأدواتها الاستخباراتية والمالية، مع غياب منهجية التنظيم الضامنة تحصين الثورة من داخلها، مما أدى مع قصور قياداتها السياسية والعسكرية، عن فهم تعقيدات الصراع وتحدياته الكبرى، إلى تآكل شرعياتها التمثيلية، وتشتيت قرارها بين مراكز التأثير الدولي والإقليمي، على حساب استقلاليتها الوطنية.

قلّما واجه شعب ثار على حاكمه المُستبد، كل هذا الاصطفاف الغاشم من المجرمين والقتلة والمتآمرين، وقلّما واجهت ثورة يتيمة، كل هذا التشويه المتعمد والطعن في الظهر، ووحده الشعب السوري من تفننوا في سحق تطلعاته، كي يستسلم بعد كل هذه الدماء والتضحيات والكوارث التي حلت به. لا ينفصل عن أهدافهم المسعورة تلك، إغراق ضحايا الإجرام الأسدي وجرائم حلفائه، في دوامة الالتباس والتشويش والتيئيس، وصولاً إلى دفع الشعب السوري لـ “الكفر” بكل شيء، بعد أن فقد أعز وأغلى ما يملك، مصلوباً على مذابح التنكر والخذلان والصمت. لا غلوّ أنها أكبر جريمة منظمة في كيّ الوعي الجمعي، ودفعه إلى تفضيل أيّ خيارٍ وحل يُنقذ ما تبقى من بقاياه، على تحمل مالا يُحتمل من كلفة الحرية والخلاص، وأثمانها الدموية المروعة، لكن تجليات الجبروت السوري تأبى المفاضلة بين المذلة والاستسلام، وتُعاند بلا هوادة أعاصير الاقتلاع والتركيع، كي يبقى التحدي بعد مرور عقد كامل من الصرخة الأولى مفتوحاً على أفق الخلاص.

المصدر: سوريا الأمل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى