أوروبا… الاستقلاليّة الدفاعيّة تبقى مجرّد فكرة

أسعد عبود

أوروبا في مأزق. فهي غير قادرة على القيام بالأعباء الدفاعية عن نفسها وحدها، وتريد في الوقت نفسه أن تمتلك نوعاً من الاستقلالية عن حلف شمال الأطلسي. وليست المرة الأولى التي يخوض فيها زعماء الاتحاد الأوروبي نقاشاً في هذا الشأن على غرار ما جرى في القمة الأوروبية التي انعقدت افتراضياً في بروكسل الجمعة.

عام 1949 تأسس حلف شمال الأطلسي في مواجهة حلف وارسو، الذي كان يضم الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه في أوروبا الشرقية والوسطى. ويقول وزير الخارجية الأميركي سابقاً هنري كيسنجر في كتابه “الدبلوماسية”، إن “حلف الناتو، كان أول حلف عسكري إبان السلام، في تاريخ أميركا، كان مرده المباشر إلى الانقلاب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا عام 1948″.

قبل أكثر من 30 عاماً، انهار حلف وارسو مع سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، بشكلها المعهود عقب الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من استقطاب حاد بين الولايات المتحدة ومعها أوروبا الغربية واليابان وأستراليا أو ما عرف بـ”العالم الحر” وبين الاتحاد السوفياتي.

ومنذ عام 1991، تنفرد الولايات المتحدة بقيادة نظام دولي جديد، يقوم على الأحادية القطبية. لكن عالم اليوم يواجه تحديات جديدة غير تلك التي كان يشكلها الاتحاد السوفياتي. وعلى سبيل المثال، شدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام قمة بروكسل، على ضرورة أن تقوم أوروبا “باستباق الأشكال الجديدة من التهديدات، معلوماتية أو بحرية أو فضائية أو جوية”.

لكن النزعة إلى الاستقلالية لدى بعض القادة الأوروبيين، تواجه بتحفظات من قادة آخرين، ولا سيما في دول “المواجهة” إذا جاز التعبير مع روسيا، وهي بولندا وجمهوريات البلطيق، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا. الدول المذكورة تخشى أن يؤدي أي تخفيف لدور حلف شمال الأطلسي في الدفاع عنها، إلى احتمال وقوعها فريسة سهلة أمام أي هجوم من جانب روسيا وريثة الاتحاد السوفياتي.

وهذا ما يجعل فكرة أن يضطلع الاتحاد الأوروبي بدور دفاعي أكبر، تصطدم بمعارضة من دول أعضاء في الاتحاد. والمؤيدون للاستقلالية الدفاعية الأوروبية، يدافعون عن وجهة نظرهم، بالإشارة إلى الدور الذي تقوم به تركيا، في عرقلة خطط لحلف الناتو للعب دور أكبر في بعض النزاعات الدولية، وخصوصاً في ليبيا.

وفي هذا الشأن، قال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال إن “تركيا عضو مهم في الحلف الأطلسي لكننا (دول الاتحاد الأوروبي) نواجه مشكلات بسبب تصرفاتها”. وأوضح أن وضع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا سيُقيّمه نهاية آذار (مارس) القادة الأوروبيون و”سنتخذ قرارات معاً”.

وحتى قبل أن تبرز الإشكالية التركية، فإن دولاً مثل فرنسا التي تكاد تواجه وحدها التحدي الإرهابي في المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو في منطقة الساحل، تجد أنها غير قادرة على إقناع حلف شمال الأطلسي بمشاركتها هذا العبء مثلاً، لأن الولايات المتحدة لا تريد توريط الحلف هناك، بينما يتحمل الحلف في أفغانستان قسطاً مهماً من المواجهة ضد “طالبان” و”القاعدة” و”داعش”.

وقد يكون ذلك عائداً بدرجة كبيرة إلى الفارق في النظرة الأميركية إلى أولويات التهديد في العالم. أوروبا، التي هي أقرب إلى أفريقيا، ترى أن من الضروري أن تضطلع القارة العجوز بدور أكبر في مكافحة الإرهاب ومساعدة مشاريع التنمية في القارة السمراء.

ومع ذلك، لا تزال أوروبا في حاجة إلى وقت طويل، كي تستقل دفاعياً عن الولايات المتحدة. لكن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي أبدى ازدراءً غير مسبوق لحلف الأطلسي، جعل الكثير من الأوروبيين يبحثون بجدية أكبر عن احتمالات أن يأتي يوم، وتحت تأثير النزعة الانعزالية في الولايات المتحدة، يجد فيه الأوروبيون أنفسهم وحيدين في مواجهة الأخطار، سواء الآتية من الجبهة الشرقية أو الناجمة عن الإرهاب والحروب السيبرانية.

ولذلك، تنفس الأوروبيون الصعداء مع وصول جو بايدن إلى الرئاسة في الولايات المتحدة، وعودة الحديث عن “الشراكة” مع أوروبا. لكن شبح ترامب، سيبقى حافزاً قائماً يدفع بالأوروبيين إلى المضي في البحث عن الاستقلالية الدفاعية.

المصدر: النهار العربي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى