في ساعة متأخرة من ليلة دمشقية حزينة من ليالي تموز (يوليو) 2007، اتصل بي دبلوماسي اوروبي يعمل من دمشق علي الملف اللبناني وطلب مقابلتي بشكل عاجل.
كنت في حينه أدير مركزاً استشارياً في العلاقات الدولية. ذهبت اليه وأنا أضرب اخماساً بأسداس، كنت اعرف انه سيسأل عن الاغتيالات في لبنان إذ كان دم الشهيد وليد عيدو لا يزال طرياً، وكانت الصدمة قد أوصلت لبنان إلى حد الاختناق.
كان من الواضح لي في حينه أنهم قرروا ان يستسلموا للأمر الواقع، فبعد أن فشل ضغط بوش لتحويل حرب 2006 إلى كسر استراتيجي لإيران، ها هو يعلن انتهاء المهمة في العراق (Mission Accomplished)، وبدت واضحة ملامح إعادة تأهيل ايران في العراق، فما الذي سيقوله صديقي أبعد من ذلك؟
عند اللقاء، قال: “انني أستشيرك كصديق ما الذي يمكن ان نفعله كي تتوقف الاغتيالات في لبنان؟ ونحن مستعدون لذلك”. وأمضينا الليلة في نقاش طويل لهذه الفكرة حاولت أن استكشف فيه مدى العزم الأوروبي في دعم مسار 14 شباط (فبراير) في لبنان، او مدى نيتها في القبول بدور سوري إيراني في تثبيت استقرار قلق ومؤقت من خلال نمط جديد للوصاية ومفهوم ال Mission accomplished في لبنان.
أصبح واضحاً بالنسبة لي أن القضية لم تعد هي مسارات التحقيق في مقتل الشهيد رفيق الحريري، ولا تطلعات شباب 14 شباط، بل أصبحت القضية هي اغلاق الجرح اللبناني بقيحه الى “أن يقضي الله امراً كان مفعولاً”، وإعادة تأهيل وتعويض نظام بشار الأسد مع دول الخليج، وليخرب ما تبقى من لبنان ولتتهافت كل النخب في لبنان على حجز المقاعد في لعبة الكراسي الموسيقية الجديدة، بعد أن صار مجرد الجمود والبقاء سياسة ناجحة لكل الاطراف.
وبذلك أعيدت البركة لبشار الأسد، وحصل 7-8 أيار (مايو) وتم سحب 14 شباط ليحل 8 شباط محله. نعم بعد كل تلك الاغتيالات تضافرت جهود دولية على اطلاق النار في رأس ثورة 14 آذار.
قفز إلى ذهني شريط مفصل بكل لحظاته فور استيقاظي على نبأ الاغتيال المستجد في لبنان، للشهيد لقمان سليم. وشعرت بغضب وقلق، فرغم التوتر والحزن، كانت الفكرة الطاغية في ذهني هو التوجس.
التوجس من دورة أخرى تقوم على قبر النهوض الجديد، التوجس من استعادة القوى المتعيشة على عفن البلاد لقدرتها على البقاء عبر دورة جديدة من الاغتيالات. فحين يهزم الحق لا ينتصر إلا الموت.
الملامح المقلقة واضحة. وليس أقلها بعض ما قيل مؤخراً في إعادة تأهيل “حزب الله” وفي زيارات مرتقبة لاعادة انتاج الازمة وفي زيارات لفرقاء لبنانيين سعياً لوساطات تكرس دورة الازمات.
لكني سرعان ما عدت لأقول إن هذه المرة ستكون مختلفة، فما أبعد اليوم عن الامس. فرغم أن بعض القوى الدولية والإقليمية لا تزال تفكر بذات المنطق، كونها لا ترى مصيراً نستحقه الا بالمزيد من الاستبداد وتكرار ذات السيناريو لخروج الوصاية ثم استعادتها مراراً وتكراراً ليتناوب عليها بلطجية الاقليم.
حين دخلت سوريا إلى لبنان كان الانطباع في الدول الغربية أنها وحدها التي تستطيع ضبطه ومنع تحوله لبؤرة صراع جديدة سواء في إطار الصراع العربي- الإسرائيلي أو الصراع على النفوذ الايراني.
فلكي تكون بلطجياً يجب ان يكون ثمة ثروة تنهبها، لابد من فائض أو ريع تغرف منه. فلقد كان العقد الوظيفي لهذا النمط من الاقتصاد هو أن يكون شريكاً لبلطجية ناجحة حاكمة في دمشق وبغداد إلخ … ولعقود مضت امنت هذه الشراكة ريعاً يكفي لحل وتدبير أمور اقتصاد لبناني متدهور ببطء.
ولكن ماذا لو أصبح البلطجية أفقر فأفقر، وماذا لو انهم غير قادرين حتى لو رغبوا في أن يصبحوا مواطنين طبيعيين، وماذا لو لم يعد بإمكانهم تأمين الحد الأدنى من الاستقرار والعيش بديلاً للحديد والنار؟ وماذا لو أن نموذج الدولة المبنية على توافقات القاهرة والطائف وتوافقات ما بعد الشهيد عيدو، لم يعد قابلاً للعيش.
فبعد ثورة تشرين وانفجار المرفأ وكارثة الوباء تكرس الإفلاس التاريخي للنموذج.
وفي الإقليم ثمة أمور كثيرة تغيرت. فلا سوريا بقيت مصدرا للريع ولا ضابطا للصراع وعاملا للتوازن والاستقرار، ولا أوروبا بقادرة على إعادة تأهيل “حزب الله”، ولم تعد القضية مصدر ابتزاز للعرب.
فبعد ان صارت الوطنية جسراً للطائفية وصار التحرير جسراً للمافيات، استمرأت إيران وبلطجيتها إحراج العرب حتى أخرجوهم. الفضاء الجيو-ستراتيجي الذي سمح ب 7-8 أيار (مايو )2008 لم يعد منه شيء، وبعد السلام الخليجي- الإسرائيلي، وانهيار موارد الاتاوات الريعية لجبهة المقاومة، اصبح الموديل-النموذج غير قابل للحياة في الإقليم بأسره. فعلى ماذا سيراهن أنصار اغلاق الجروح بقيحها؟
أما الآن فإنهم يراهنون على فشل واحباط هذه الوطنية اللبنانية الصاعدة فوق كل خطوط التقسيم والافتراق، انهم يراهنون على إرهاب اللبنانيين بالفقر المدقع. انهم يراهنون على وهن إرادة الغرب وعلى وهن النخب الشابة في لبنان في انتاج نموذج بديل لعقد اجتماعي فاسد يعيد تأسيس وحدة الامة اللبنانية.
عقلية ليلة دمشق الحزينة لم تعد تنفع، ولا حتى في تخفيف الآلام، فبعد احراق القنصلية الإيرانية في النجف، وبعد ثورة تشرين في لبنان وانفجار المرفأ، وبعد مأزق سرقة الانتفاضة السورية، ثمة جيل جديد عابر للطوائف يقرع الباب بقوة.
أما انا فأراهن على فشل منطق دفن الجمر تحت التراب، أراهن على إفلاس منطق تلك الليلة الدمشقية الحزينة، بل أراهن على روح الامة اللبنانية ذاتها، وفي رهاني هذا أدعي، كما تقول ام كلثوم ” وعايزنا نرجع زي زمان، قل للزمان ارجع يا زمان”.
المصدر: النهار العربي