انكشفت قصة خالد الحلبي منذ عام 2018 ، حسب ما صرح به لنا أنور البني المحامي ، والناشط الحقوقي الذي يلاحق ويطارد مجرمي الحرب السورية ، وعملاء النظام في أوروبا ، وأقنع القضاء في ست دول فيها بتطبيق (الولاية القضائية العالمية) على مرتكبي الجرائم في سورية . بيد أن إنكشاف القصة لم يؤد الى فك الغازها ، على الرغم من عشرات المقالات والتحقيقات الاستقصائية في الصحف والقنوات الأوروبية ، إضافة لتحقيقات منظمات حقوقية عديدة في فرنسا والنمسا ، نقلت القصة الى مستوى ( فضيحة دولية ) !
وعلى الرغم من هذا الكم الكبير من المواد الاعلامية والحقوقية سنعيد هنا ترتيب الاحداث وتسليط الأضواء على الفصول المعروفة من القصة والفضيحة ، لمن لا يعرفها ، بما فيها من ألغاز وأسرار وجوانب مثيرة ، بانتظار إماطة الغموض عن ألغازها .
المذكور ضابط كبير ، برتبة عميد في المخابرات العامة السورية (أمن الدولة)، يعود أصله الى مدينة السويداء ، ودرزي من طائفة الموحدين العرب ( نقول هذا للضرورة وللحاجة ، بهدف إنارة الحقيقة كاملة ) . خدم في فروع أمن الدولة في السويداء ، ثم حمص ، وأخيرا فرع الرقة 335 اعتبارا من عام 2009 حتى انشقاقه عام 2013 .
وأثناء خدمته رئيسا لفرع الجهاز في محافظة الرقة ، ذاع صيته كأحد أقوى جزاري النظام، وتعرف عليه بعض ضحاياه في أوروبا، وخصوصا فرنسا ، وقدموا دعاوى وشكاوى ضده أمام القضائين الفرنسي والنمساوي . وأكد عديد من الشهود أن له سجلا حافلا ومرعبا بكل جرائم الاعتقال والتعذيب الشنيع والقتل، مثله كمثل آلاف ضباط الاستخبارات في جمهورية الطغيان الأسدي ، وتميز الحلبي عن الآخرين حسب روايات الشهود بأنه أحيا فنون تعذيب وحشية تعود للقرون الوسطى .
من هؤلاء الشهود الطبيب عبادة الحمادي ، وشقيقه المهندس علاء الحمادي .
وعندما انفجر بركان غضب السوريين عام 2011 وخرجوا الى الشوارع يطالبون بالحرية بصورة سلمية، بلغت جرائم الاعتقال والتعذيب العنيف والقتل على أيدي الأجهزة المتوحشة ذراها ، وكانت الجرائم تزداد وحشية ، كلما ابتعدت الأماكن عن العاصمة والمدن الرئيسية ، كالرقة ، والحسكة ، ودير الزور . وفي ربيع 2013 تمكن ثوار الرقة من تحريرها وطرد قوات وأجهزة النظام منها .
انشقاق العميد الحلبي :
في هذه الفترة الحرجة أعلن العميد خالد الحلبي انشقاقه عن النظام ، وفرَّ الى تركيا . وقبل فراره اتهمه بعض ثوارالرقة بالتواطؤ مع هيئة تحرير الشام ( القاعدة ) في الاستيلاء على الرقة التي حررها ثوار الجيش الحر . واتضح لاحقا أن تسليمها بهذه الطريقة التي انطوت على تواطؤ مبرمج بين أجهزة نظام الأسد الارهابي ، ومتطرفي أخطر تنظيم ارهابي في العالم (القاعدة) ، وصورة من صور التعاون الميداني بينهما ضد ثورة الشعب السوري ، ثم اتضح أن هذه الخطوة مهدت الطريق لتسليم الرقة الى تنظيم الدولة – داعش للانتقام منها شر انتقام ، لكونها أول محافظة من محافظات سورية الخمس عشرة تنجز دحر النظام عنها ، وتحريرها تحريرا تاما ، وتسليم إدارة شؤونها المدنية مجلس محلي يضم عددا من كبار الشخصيات الوطنية ذات التاريخ الناصع في المعارضة ومقاومة النظام ، ويرأس المجلس محام وناشط حقوقي بارز يدعى عبد الله خليل ، قضى سنوات طويلة من عمره في زنازين الأسد . ومما يثبت وجود تواطؤ بين النظام وتسليم الرقة الى القاعدة من أيدي الجيش الحر وقادة الثورة السلمية والوطنية أن أول ما فعلته (هيئة تحرير الشام – القاعدة ) بعد استيلائها على المدينة بتسهيل من قادة الأجهزة الاستخبارية هو خطف رموز المعارضة الوطنية المؤمنين بالسلمية والحرية والديمقراطية ، واخفاؤهم حتى الآن ، وعلى رأسهم عبد الله خليل ، وتبعه الأب باولو داليليو الراهب الايطالي صديق الشعب السوري ، ولم يعرف حتى الشاعة مصير أي منهما ، ومصير كثيرين غيرهما ، ما يؤكد أن النصرة وداعش قد دخلتا الرقة بتسهيل من اجهزة النظام للانتقام من الثوار . وهو أمر يشبه تسليم استخبارات الأسد محافظة الحسكة لقوات حزب الاتحاد الكردي الذي حكم المدينة بالحديد والنار وقمع الثورة في مهدها ، واغتال أشرف معارض الأسد . وهذا الأمر يفسر لماذا لم تقاتل قوات القاعدة وداعش قوات النظام ، بينما ركزت كل جهودها على محاربة الثوار وخيانتهم والغدر بهم ، ولماذا قدمت قوات النظام الاسلحة بكميات كبيرة لداعش ، ولماذا تبادلت النصرة – القاعدة التجارة مع النظام … إلخ .
أول ما قام به العميد المنشق خالد الحلبي بعد وصوله الى تركيا زيارة مكتب ( الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) وبعض شخصيات وقادة المعارضة من العسكريين المنشقين والسياسيين ، وقدم نفسه لهم كمعارض ، وعرض عليهم خدماته . تبدو العملية ضرورة له ، تشبه عملية التطهر وتبديل الوظيفة والدور . والغريب الملفت للانتباه والحيرة سرعة اتقانه لدوره الجديد ، كمعارض ومعاد للنظام ، وهو الذي عاش حياته المهنية كلها جزارا وسفاحا يقتل المعارضين والثوار ويذيقهم سوء العذاب على مدار اليوم والساعة ، طوال أعوام وأعوام ، وكيف يمكنه الانقلاب على دوره التقليدي السابق بسرعة قياسية ، دون المرور بمرحلة انتقالية ، ودون تمهيد ، كما لو أن ما يجري فيلم سينمائي يتكثف فيه الزمن .
وتأكيدا لهذا الانطباع أن العميد السفاح ، أو المعارض المنشق لم يطل المقام في تركيا ، كما فعل زميله العقيد أنور رسلان ضابط الاستخبارات في نفس الجهاز الذي انشق عنه وكان رئيسا للفرع 251( فرع الخطيب) في دمشق في العام ذاته ، والملاحظة أن الاثنين انشقا في وقت واحد ثم انتقلا الى تركيا ، وقاما بنفس السيناريو ، ثم غادراها بسرعة الى الأردن ، وأقاما فيها عدة شهور ثم غادرا الى أوروبا ، رسلان الى المانيا والحلبي الى فرنسا .
طلب الجنرال الحلبي مساعدة بعض أصدقائه من دروز لبنان ، فوفروا له فيزا فرنسية ، وغادر عمان الى باريس، حيث تقدم بطلب لجوء سياسي للاقامة فيها . وجدير بالذكر أن تحقيقا بالغ الأهمية قام به ثلاثة من صحافيي تلغراف البريطانية ونشر قبل فترة قصيرة أن الفيزا التي سمحت للحلبي بدخول فرنسا لم تمنح له بشكل عادي ، بل بتدخل من جهاز (الاستخبارات الفرنسية) بناء على تدخل جهة عليا مجهولة . وقالت بعض الجهات العليمة أن الاستخبارات الفرنسية كانت تريد استقبال العميد لأنه في نظرها ( صيد ثمين ) لتحصل منه على معلومات أمنية عن القاعدة وداعش في سورية ، مقابل منحه اللجوء في فرنسا ، كما رأت أنه يصلح ليلعب دورا سياسيا في سورية ، بعد سقوط الأسد وبعد إعادة تأهيله في فرنسا ، إلا أن انكشاف هويته ، وماضيه الملطخ بالدماء ، جعل (مكتب اللاجئين) المختص يبطىء في إجابة طلبه ، ويوسع التحقيق في جرائمه ، لا سيما بعد أن تنبهت وسائل الاعلام ، والمنظمات الحقوقية ، ودفعه الى رفض الموافقة على منحه حق اللجوء . كما أن الشرطة العادية فتحت تحقيقا ، وشرعت في جمع الأدلة عنه ، لتوقيفه كمجرم ارتكب جرائم ضد الانسانية . ويبدو أن جهة ما غير معلومة كانت تتابع وضعه وسير ملفه القانوني ، فقامت بتحذيره من احتمال توقيفه قريبا . ونصحته بالبحث عن ملاذ آمن في بلد آخر ، فبدأ يخطط للهرب من فرنسا ، وقد أجرى اتصالات سريعة بأطراف دولية له علاقات غير مفهومه معها !.
وكان فريق من هيومان رايتس ووتش برئاسة نديم حوري نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الاوسط قد زار الرقة بعد تحريرها عام 2013 فورا ، وعاين مقار فروع الاستخبارات الأربعة في المدينة ، واطلع على وسائل التحقيق والتعذيب ، بما فيها مقر جهاز أمن الدولة ، ومكتب العميد خالد الحلبي ذاته ، وثبت وجود وسائل تعذيب فيها جميعا . وصرح نديم حوري في أعقاب ذلك ( ما رأيناه من وثائق وزنازين وحجرات استجواب ووسائل تعذيب في مقار الاستخبارات الحكومية تتفق مع أقوال المعتقلين السابقين الذين وصفوا لنا ما تعرضوا له منذ بداية الانتفاضة في سورية ) . ونشرت المنظمة صورا لأدوات التعذيب التي وجدتها في مكتب العميد خالد الحلبي رئيس فرع أمن الدولة في المدينة ، تؤكد ممارسته تعذيب المعتقلين بشكل منهجي ، ككل فروع الاستخبارات في سورية ، ما يشكل سياسة دائمة وثابتة .
وفي أوائل عام 2019 أنجز الصحافي الفرنسي توماس ليلو تحقيقا من حلقتين بعنوان : (مجرمو الحرب .. البحث الكبير) بثته القناة الفرنسية الثانية ، وخصص الحلقة الاولى منه عن مجرمي الحرب السوريين في أوروبا ، وكانت بعنوان (جاري .. هذا الجلاد) وقد ظهر في التحقيق العميد الحلبي الفار من العدالة الفرنسية والمتواري في أوروبا ، وتحدث متهمًا ضحاياه بالكذب والافتراء عليه ، ووصفهم بأنهم عملاء يتقاضون المال لاتهامه زورًا. ووصفهم أيضا بالتافهين ، طالبا من معدّي التحقيق عدم الاستماع لهم ، وقال إن ما تضمنه البرنامج عنه ملفق ، بما في ذلك الصور التي عرضتها هيومان رايتس ووتش لمكتبه في أمن الدولة .
ولكن الأمر كان قد تجاوز الاتهامات العابرة ، إذ أن عددا من اللاجئين والمعارضين السوريين الذين اعتقلهم وعذبهم خالد الحلبي تعرفوا عليه ، وقدموا معلومات دقيقة عنه ، وعن جرائمه الى الشرطة الفرنسية ، والمحطات الفضائية ، والصحف والمنظمات الحقوقية المختصة بتعقب مجرمي الحرب ، وقامت هذه بالبحث عن العميد الحلبي واقتفاء اثرة ، وجمع الأدلة عن ماضيه وارتكاباته .
وعن هؤلاء يقول العميد المنشق أحمد رحال (لقد أثبتت التجارب أن الغالبية الساحقة من المنشقين عن أجهزة الاستخبارات ، إنما قاموا بالانشقاق بتكليف من أجهزتهم ، للقيام بمهمات تجسسية لصالحها ، ولصالح النظام ، وخاصة اختراق صفوف الثوار والمعارضة ، وجمع المعلومات ، وهذا ينطبق على بقية الضباط ، أمثال محمد مفلح وأنور رسلان ، وعبد الحميد شعبان ، فلماذا لا ينطبق على خالد الحلبي أيضا .. إلخ ) .
وظهر في تحقيق القناة الفرنسية الثانية أحد ضحايا التعذيب في فرع أمن الدولة بالرقة يدعى معاذ ، وهو مهندس كمبيوتر . وقال إنه عاش جحيمًا في زنزانة الحلبي ، بعد اعتقاله بسبب خروجه في مظاهرة سلمية .
واستعاد معاذ كلام المجرم خالد الحلبي معه أثناء وجوده في مكتبه بعد اعتقاله كما يلي :
العميد الحلبي : “يا ولاد الكلب يا ولاد الشرموطة.. إذا لم تعترف سنجلب زوجتك وأختك وبنتك .”
ثم أمر أحد الجلادين : ” أنزل الطميشة عن عينيه ليرى ما الذي خلفه “، فرأى معاذ (بساط الريح) إحدى أشد وسائل التعذيب .
بعد ذلك أرسل الحلبي معاذ إلى التعذيب
معاذ: ” أنزلوني إلى الأسفل ، وبدؤوا يضربونني “.
وتعرّف معاذ على مكتب الحلبي في فيديو صورته “هيومن رايتس ووتش” في أثناء زيارتها الميدانية البحثية للرقة .
وظهر في التحقيق أيضا المحامي بيل وايلي ، مدير لجنة العدالة والمساءلة الدولية ، وهو يقول للصحفي توما ، إنه قدّم للمحاكم الأوروبية أسماء 581 سوريا مشتبهًا بهم ، أغلبهم موجودون في أوروبا . يشرف وايلي على مستودع خاص يحتوي نحو ثمانمائة ألف وثيقة ( 800,000 وثيقة) للنظام السوري مهربة من سورية ، تعتبر ثروة من الأدلة على جرائمه . أضاف بيل إن هناك نحو ألف مشتبه به في أوروبا ، متورطون باقتراف جرائم حرب ، أو جرائم ضد الإنسانية ، حسب منظمات مدنية سورية .