“هناك التعصب الديني، والتعصب غير المتدين، والثاني لا يقل سوءًا عن الأول”. هكذا خاطب وزير التربية -ورئيس الحكومة لاحقا- جول فيري الحضور في 19 نيسان (أبريل) 1881 وسط قهقهات البعض، بمناسبة المؤتمر التربوي الثاني لمدرِّسي القطاع العام الفرنسي. وتذكّر كلمات مؤسس المدرسة العمومية في فرنسا بواقع منسي، وهو أنه تم خوض الكفاح من أجل العلمانية في فرنسا على جبهتين. الجبهة الأولى، والتي كانت لها الأولوية، هي جبهة الكفاح ضد الكنسية الكاثوليكية التي كانت قوة ذات ثقل وكبرياء، معادية للجمهورية، وكانت ترفض تسليم أي من صلاحياتها. وكانت الجبهة الثانية داخل المعسكر الجمهوري نفسه، ضد أولئك الذين كانوا يرون في العلمانية سلاحاً ليس ضد النظام الكهنوتي، وإنما ضد الأديان.
لكن مراجعة التاريخ تبين لنا أنه في المرحلتين الحاسمتين اللتين ميزتا الطريق الطويل نحو فصل الكنيسة عن الدولة بعد ولادة الجمهورية الثالثة -أي إرساء التعليم العلماني وقانون سنة 1905- فضلت الحكومات المتعاقبة التسوية على التعنت، والحوار على القدح، وتطوّر العقول على الحرب الأهلية.
صليب في المدارس؟
بين العامين 1882 و1886، سُنت قوانين عدة لتنظيم “علمنة” المدرسة على ثلاث مراحل؛ أولاها علمنة البرامج، وثانيها المدارس، ثم المدرِّسون. لكن علمنة التلاميذ لم تُطرح البتة. وبسن قانون 28 آذار (مارس) 1882، أصبح التعليم الابتدائي مجانياً وإجبارياً، بينما مُنع التعليم الديني في المدارس الحكومية.
تم الانتقال نحو المدرسة العمومية بصرامة وليونة في آن واحد، كما تشهد على ذلك قضية الصليب. هل ينبغي نزع هذا الرمز الديني من جدران قاعات الدراسة؟ نادت المناشير الوزارية بتطبيق القانون “بالفكر نفسه الذي ساد على انتخابه، وبفكر الإعلانات المتكررة للحكومة نفسه، وليس كقانون كفاح ينبغي انتزاع نجاحه بعنف، وإنما كأحد القوانين العضوية الكبيرة التي يقدر لها العيش مع هذا البلد، والدخول في تقاليده، لتكون جزءًا من تراثه. وهكذا تقرر عدم تعليق الصليب في المدارس التي سيتم بناؤها، ونزعه في الحالات التي لا يسبب الأمر فيها مشكلة، والإبقاء عليه في الحالات المعاكسة. وهكذا أخذ نزع الصليب بالكامل من المدارس العمومية قرابة القرن.
فسر جول فيري أهمية “التخفيف مما قد يحمله وضع جديد من صرامة من خلال التلطيف الحكيم”. وكما أشار إلى ذلك المؤرخ باتريك كابانيل، فإنه “يجب أن تُفهم هنا كلمة التلطيف (الكلمة بالفرنسية تحمل في جذرها كلمة “الزمن”) بمعنى التليين والتمهل، أي تعويد الآراء والعقليات لمنحها الوقت الكافي الذي تحتاجه الإصلاحات والأنظمة الحريصة على الانتصار، ليس من خلال عنف الطوباوية أو الأسلحة أو النصوص، بل من خلال التلقين الجماعي والتمكن”. وإلى جانب قضية الصليب، هناك أمثلة كثيرة لهذا “التلطيف”، منها أن إدراج “الواجبات تجاه الله” في البرامج الإلزامية للأخلاق لجيلين من التلاميذ، كما تقرر منح يوم عطلة أسبوعي (الخميس، ثم الأربعاء) لمن يريد متابعة التعليم المسيحي، وأتيح للتلاميذ التغيب عن المدرسة خلال الأسبوع الذي يسبق مناولتهم الأولى، إلخ.
“وسيلة تعذيب تدعى صليب”
كثيرا ما يُقتبس من رسالة جول فيري إلى المدرسين، المحررة في 11 آذار (مارس) 1882: “لو تناسى مدرِّس دوره إلى درجة تجعله يقدم تعليماً عدائياً في إحدى المدارس، تعليما مسيئا للمعتقدات لأي شخص، سيعاقَب بالصرامة والسرعة نفسهما اللتان قد يعاقَب بهما إذا قام بعمل مشين آخر مثل ضرب تلاميذه أو الإساءة إليهم”. ماذا كان فيري سيقول لو فُرضت على التلاميذ رسوم كاريكاتورية لمجلات مناهضة لنظام الكهنوت مثل “لا لانتيرن” و”لا كالوت”، التي كانت تقدم الصليب على أنه “وسيلة تعذيب تحمل جثة من الجبس أو المعدن”؟ أو إذا اشتكى مدرّس تلاميذه الذين بأعمار 8 أو 10 أو 12 سنة إلى الشرطة لأنهم يحبون المسيح أكثر من حبهم لماريان -رمز الجمهورية- أو لأنهم يضعون القوانين الإلهية فوق القوانين الجمهورية؟
هنا ينبغي التذكير بنقطة مهمة، هي أنه لا وجود لتعريف واحد للعلمانية، بل توجد تأويلات عديدة لهذا المصطلح منذ اختراعه. وقد تعددت هذه التأويلات اليوم أكثر، بعد أن أصبح اليمين يدافع عن هذه العلمانية التي لطالما قاومها بحماسة، ويلتحف بها لمهاجمة الإسلام والمسلمين. يمكننا إذن أن ندافع عن تأويلات عديدة للعلمانية، لكن قوانين الجمهورية وحدها هي التي تفرض على الجميع. قد يرى البعض أن العلمانية تعني إخراج الدين -ولا سيما الإسلام- من الفضاء العمومي، وهم أحرار في ذلك. لكن عليهم أن يعترفوا أن هذه الرؤية لا تمت بصلة إلى نص وفكر قانون سنة 1905.
الوجود في الفضاء العمومي
أقرت عدة أحكام لمجلس الدولة بالقراءة الليبيرالية لهذا النص المؤسس، وضمنت للكنائس حقها في التنظيم كما يحلو لها وفي الظهور في الفضاء العمومي. ونرى ذلك في أحد أول النزاعات التي واجهتها الجمهورية بعد سنة 1905، حول المواكب الدينية. فقد أراد عدد من رؤساء البلديات منع هذه المواكب باسم الخوف من تعكير صفو النظام العام. وتم استئناف قرار 139 حول منشور بلدي صدر بين 1906 و1930 بهذا الصدد، وتم نقضه في 136 حالة، كما تم نقض جميع قرارات رؤساء البلديات الذين أرادوا منع ارتداء الكهنة لعباءاتهم على أراضيهم. كما رفض مجلس الدولة مطالب وقف عمل الكنائس التي تقدمت بها البلديات، ورفض منحها حق بيع الأمتعة المخصصة للعبادة، وحدّ من استعمال أجراس الكنائس لأغراض غير دينية خلال المواجهات بين رؤساء البلديات والكهنة.
سيفاجأ من يطالع النقاشات البرلمانية لسنة 1905 والتي تميزت بجودة عالية، بهذه الليبيرالية التي نتحدث عنها والتي دافع عنها بحماس كل من أرستيد بريان -الذي حمل هذا القانون أمام البرلمان- والقائد الاشتراكي جان جوريس. هكذا رفض البرلمان اقتراح حذف أيام العطلة ذات الطابع الديني أو قرار أن يكون جميع الكهنة فرنسيين.
يتم عادة التذكير بالفصل الثاني من قانون 1905: “الجمهورية لا تعترف ولا تموّل ولا تدعم أي دين”، من دون ذكر الجزء الثاني من هذا النص الذي يكاد يتناقض مع ما سبق: “ولكن يمكن إدراج مصاريف العبادة وتلك المهيئة لممارسة حرة للشعائر الدينية في المؤسسات العمومية مثل المعاهد والمدارس والمشافي والمستشفيات العقلية والسجون في هذه الميزانيات (أي ميزانية الدولة والجهات والبلديات)”. ومن جهة أخرى، ينص القانون على أن أماكن العبادة –التي أصبحت ملكاً للدولة منذ الثورة الفرنسية- توضع مجانيا على ذمة الجمعيات الدينية (كان بالإمكان استئجارها) وأن مسؤولية صيانتها تقع على عاتق البلديات أو الجهات أو الدولة. وما عدا ذلك، فإن الدولة لا تموّل أي دين!
لا توجد العلمانية المتخيلة اليوم إلا في أذهان أولئك الذين جعلوا منها سلاحا ضد الإسلام. فلنذكّر إذن ببعض الخروقات التي شابت “النقاء العلماني”. لم يشمل قانون 1905 أبدا منطقة ألزاس موزيل، إذ لم تنجح في فرض ذلك -على مدى قرن- أي حكومة يمينية كانت أم يسارية، وهو ما يترتب عليه أن فرنسا هي البلد الوحيد في العالم الذي يقوم رئيسه بتسمية أسقفين -أسقف ستراسبوغ وأسقف ميتز- قبل تسميتهما من قبل كنيسة روما! كما أن العلمانية لا تطبق إلى اليوم في كاليدونيا الجديدة أو في بولينيزيا. أما في غيانا، فوحدها المسيحية الكاثوليكية تتمتع باعتراف رسمي ويتقاضى كهنتها أجورهم من الدولة، ناهيك عن كون القنصل العام الفرنسي في القدس -وهو ممثل عن الجمهورية- يحضر بصفته الرسمية قرابة 12 قداساً مسيحياً في السنة، ويباركه الكاهن ويقوم بتقبيل الإنجيل المقدس.
سلاح واحد: الحرية
ليس الهدف هنا التقليل من القطيعة التي مثلها قانون 1905، والتي تشهد عليها معارضة الأوساط الكاثوليكية الشرسة لهذا النص. لكن السؤال هو كيف كانت ردة فعل الحكومة؟ رفضت الكنيسة الفرنسية بأمر من الفاتيكان هذا القانون، كما رفضت مبدأ تأسيس جمعيات دينية لإدارة الكنائس. وفي هذه الظروف، كان تطبيق القانون الذي سنه المشرع سيؤدي إلى منع إقامة القداس. وعوضاً عن ذلك، تم وضع تدابير انتقالية تضمن للكهنة الإدارة المؤقتة لأماكن العبادة الكاثوليكية. وتم تعديل قانون 1905 في 2 تموز (يوليو) 1907 (إذ لم يكن النص مقدسا بالنسبة للمعسكر الجمهوري) لتنظيم استمرارية العبادة، في انتظار اتفاق لم يأت إلا بعد 20 سنة. وكما يذكر النائب جوزيف كايو، نجح بريان “في التنظيم القانوني للتسامح تجاه ممارسات غير قانونية، مهما يبدو ذلك متناقضاً”. وكان بريان نفسه هو الذي توجه لليمين والكنيسة بالخطاب قائلا: “إن السلاح الوحيد الذي نريد استعماله تجاهكم هو سلاح الحرية”.
لو طُلب في تلك الفترة من الكنيسة إمضاء ميثاق يؤيد العلمانية وقوانينها أو “مبادئ الجمهورية” -وهو مصطلح ضبابي للغاية- أي ما يُطلب اليوم من الدين الإسلامي، لغرقت فرنسا في الحرب الأهلية. لكن مشرعي الجمهورية الثالثة كانوا أكثر حكمة من ذلك، ولم يفرضوا قوانيناً لاختيار الممثلين عن الدين أو “تزكيتهم” من الدولة، والحال أن الكنيسة كانت آنذاك قوة أكثر تهديداً وأكثر خطورة على الجمهورية مما هي الطوائف المسلمة اليوم، وهي طوائف متفرقة، لا تتمتع بوصول إلى السلطة، ولا بمنابر سياسية أو إعلامية.
اليوم، ومن خلال تصريحات عدد من المسؤولين السياسيين والتهجم اللاذع، المفعم بالكراهية لخطباء شبه علمانيين صعب عليهم إخفاء عنصريتهم، يتم فرض تأويل للعلمانية مرادف للعلمنة القسرية للفضاء العمومي ولمن يتحرك فيه. وقد فرض هؤلاء قناعة بأن العلمانية هي سلسلة من الممنوعات: منع النساء من ارتداء الحجاب في الشارع، منعهن من مرافقة الرحلات المدرسية، منع الحجاب في الجامعات. بل ويستعملون الخطر الإرهابي كذريعة لمساءلة الحريات وهم يتشدقون بها يومياً. ممنوعات وأوامر، اتهامات بالـ”انفصالية” وحث على الوشاية، إخطارات رسمية ووصم…
لا شك أن أريستيد بريان وجان حوريس يتقلبان في قبريهما.
*مدير مجلة “أوريان 21″، متخصص في شؤون الشرق الأوسط، له مؤلفات عديدة منها “علام يدل اسم فلسطين؟”
المصدر: الغد الأردنية/(أوريان 21