حينما أطلق جمال عبد الناصر نداءه إلى الشباب العربي، سنة ١٩٦٣، لتأسيس الحركة العربية الواحدة، كانت الساحات الشعبية العربية تعج بالحركة السياسية من كل نوع.. كانت تتفاعل ويثور فيها أعمق جدل اجتماعي حول كل قضاياها الحياتية والوطنية والقومية..
كان الشباب العربي منخرطًا في صلب الجدل الاجتماعي القائم مساهما في معارك البناء والتنمية كما في معارك الدفاع عن الأمة ووجودها القومي ورد العدوان عليها من جهات كثيرة وعلى جبهات متعددة..
كان الوعي السياسي في أجيال الشباب على درجة عالية من الكفاءة والأصالة والإلتزام..
والثقافة العربية على اتساع الامتداد العربي في كل مكان من بلاد العرب وأرض العروبة..
كان الاعتزاز بالانتماء القومي سمة ملازمة وصفة أصيلة في نفوس الجميع فكانت كل الدعوات المخالفة تبدو شاذة منبوذة لا فعل لها ولا تأثير…دينية كانت أم يسارية أم رجعية ..
كان كل شيء في الحياة العربية يبدو متوثبا للمشاركة في معارك الدفاع والبناء..
مستعدا للتضحية والعطاء والمشاركة الإيجابية في التفاعل والحوار والتعاون والمساندة..
كان جمال عبدالناصر يقود الشعب العربي في معارك الدفاع والبناء والإستنهاض الجماهيري الفاعل..
كانت روح العروبة منتشية صاعدة في عقول الشباب كما في آمالهم وتطلعاتهم التحررية .. وروح الثورة متوقدة وهاجة ترسم لهم طريق التغيير الثوري والتطلع إلى بناء المستقبل العربي الصاعد الواعد..
كان جمال عبدالناصر يحض الجماهير على الخوض في غمار السياسة والعمل النضالي بكل أشكاله..
فكانت كل صيغ العمل الجماهيري التي طرحها كإطار للمشاركة الشعبية ، تعتبر كل مواطن عضوا فيها أو هكذا ينبغي أن يكون..
كان جمال مسكونا بالولاء للشعب وبرغبة أصيلة في التعبير عنه والإلتصاق بمشاعره وآماله كما في خلق القنوات التي تمكنه من التعبير عن ذاته وتضمن له مشاركته الإيجابية في صياغة مستقبله وصناعته ..فكانت تلك أبرز أسرار شعبية جمال عبدالناصر وولاء الجماهير له وتمسكها بقيادته في كل الظروف..
خلاصة القول أن عصر جمال كان عصر الوعي والآلتزام والمشاركة الشعبية الآيجابية الفاعلة..
في تلك الأجواء المزدهرة بأشكال النضال وأنواعه ؛ كان نداؤه لتأسيس الحركة العربية الواحدة …محملا الشباب ذاته مسؤولية بنائها وفق ما يراه مناسبا وممكنا .. فكانت تلك دعوة في صلب ديمقراطية شعبية حقيقية تفسح المجال لقوى التغيير لإيجاد مساراتها النضالية المستقبلية.
كان القائد يحتاج إلى إطار مؤسساتي منظم يضبط إيقاعات حركته الجماهيرية وجعلها تصب تماما في مجرى حركته النضالية وأهداف الأمة التحررية التنموية ؛ بما يستبعد أفعال المخربين المتضررين عن التأثير في إتجاهات العمل ومفاعيله..
كانت الحركة العربية الواحدة تجاوزا للعوائق الإقليمية التي صنعتها أنظمة سايكس – بيكو الإستعمارية والتي أريد لها أن تعطل كل أنواع التفاعل والتبادل بين الشباب العربي في الأقطار المتعددة بما يضمن بقاء وأستمرارية ذلك الإنقسام الإقليمي الذي يخرب حركة بناء المستقبل العربي المتحرر المتقدم..
كانت الحركة العربية الواحدة مطلبا نضاليا عربيا أكثر فاعلية وتقدمية من كل الأطر الإقليمية القائمة بما فيها تلك التي بنيت في مصر بقيادة عبدالناصر.
كانت تعبيرا فكريا تنظيميا عن إدراك جمال عبدالناصر لوحدة المصير العربي الثي تتطلب وحدة أدواته النضالية..
كانت تستبطن دعوة صريحة للفصل بين الثورة الشعبية وقيود الدولة الإقليمية التي كانت تكبل كثيرا من متطلبات العمل ووسائله ومساراته..
كانت الحركة العربية الواحدة إطارا علميا لاستكشاف الطاقات النضالية القيادية وتوظيفها لتفعيل النضال العربي نحو أهدافه المحددة..
كانت تلك تصورات جمال عبد الناصر عن الحركة العربية الواحدة كما أراد لها أن تكون؛ فتتكون وتفعل وتؤثر وتقود..
في مثل تلك الظروف المتأججة حركة تفاعلية ومشاركة شعبية ، وفي ظل قيادة جمال عبدالناصر الشخصية المباشرة لكل تلك المعارك والأنشطة ؛ كانت الدعوة لتأسيس حركة عربية واحدة يبنيها الشباب العربي بين جماهيره وعلى أرضه فتحمي النضال العربي من العرقلة والتخريب وتزوده بالطاقات الإيجابية الفاعلة وتؤمن له طريق الإستمرار إلى المستقبل..
وحينما إنخرط مفكرون عرب قوميون في التنظير للحركة العربية الواحدة وكيفية بنائها وعملها ، كانوا جميعا يعيشون في ظل القيادة الناصرية ..
لم يكن أحد يتوقع وفاة مفاجئة لجمال عبدالناصر وانقطاع حبال الاتصال والتواصل بين قيادة مصر بعده وبين أهداف مسيرته النضالية التحررية مصريا اولا ثم عربيا..فتحولت مصر وبسرعة قياسية من خط الثورة إلى خط أعدائها وراحت تدير قوى الثورة المضادة بكل زخم وعزيمة لتخريب ما بنته أو أنتجته تجربة جمال عبدالناصر ..ليس ماديا فحسب ؛ فألأخطر كان تخريب البنيان الفكري والعقلي والثقافي لأجيال متجددة متلاحقة من الشباب العربي في مصر وعموم بلاد العرب..
استمر الزخم النضالي الثوري بعد جمال عبدالناصر مدة عقدين من الزمن..كان لا يزال الوعي والإلتزام والمشاركة النضالية أبرز سمات العمل السياسي لا سيما في صفوف الشباب . فكانت حركته صاعدة واعدة أيضا ..لكنها وقد إفتقدت قيادة جمال عبدالناصر فقد بدأت تترنح حينا وتتوه أحيانا في زحمة المعارك المعادية تشنها قوى الثورة المضادة عليها لتركيعها واستيعابها..
تحولت مصر من رافعة للنضال العربي إلى عدو له يخرب صفوفه ويشوه مقاصده ومعانيه ..
كان هذا تحديا إضافيا جديدا أمام الشباب العربي ليواجهه فيثبت مناعته وعمق إلتزامه ووضوح رؤياه في ” مواجهة ” مصر هذه المرة بغياب عبدالناصر وليس إلى جانبها كما كان الأمر أيامه وفي وجوده..
ثم أن التجربة السياسية بدت جديدة أمام الشباب العربي ، حيث لم يكن قد إكتسب الخبرات التنظيمية الكافية بعد ؛ فراح يتخبط بتأثير من هنا وتدخلات من هناك ضمن رؤى مختلفة ومقاصد متباينة تبعا لأهواء وخلفيات أصحابها وإمكانياتهم القيادية ومعارفهم التنظيمة..
ثم كان تحدي البقاء والإستمرار مطلبا يستدعي إمكانيات مالية وإعلامية كبيرة على قدر المخاطر والمعارك ؛ فكانت هذه الحاجة مدخلا إلى مسارب مستجدة بددت كثيرا من القوة الشبابية فأفسدت بعضها واعاقت بعضها الآخر فكانت مما ساهم في تراجع الإندفاعات النضالية الشبابية..
وخلال عقدين من الزمن بعد غياب القائد جمال عبدالناصر كانت قد ظهرت أعراض سلبية غير قليلة في ميادين العمل النضالي الشبابي العربي ؛ فأضافت إلى غياب القائد تحديات جديدة تتطلب مقدرات ومواصفات أكبر بدت فوق طاقة الكثيرين ممن حاولوا أو يحاولون..
وحتى حينما أبدع مفكر الثورة العربية الدكتور عصمت سيف الدولة نظريته المتكاملة في كيفية بناء الحركة العربية الواحدة وذلك بعيد وفاة جمال عبدالناصر بسنوات قليلة ؛ كانت أجواء الثورة الناصرية لا تزال مشتعلة بالوعي ووهج المشروع الناصري لا يزال متقدا..
وكان “بيان طارق “موجها إلى أؤلئك الشباب القوميين الذين تشكلوا وعيا ورؤية في نطاق قيادة عبد الناصر وخلاصات تجربته..
رغم كل تلك الأجواء الإيجابية المناسبة لم تنجح محاولات بناء الحركة العربية الواحدة. وتعثرت محاولات جدية مهمة تحت ضغوط الواقع الإقليمي وفعالية قوى الثورة المضادة ، كما حصل في تجربة التنظيم الطليعي التي كان أرسى أولى لبناتها جمال عبدالناصر قبيل نكسة حزيران ١٩٦٧..وكانت النكسة سببا في انصرافه عنها ليشرف على إعادة بناء القوات المسلحة وإزالة آثار العدوان….ولربما كان عدم كفاءة بعض قياداتها لمواجهة مستجدات أو تحديات طارئة أو لعدم مقدرتها على التجدد والتجديد تبعا للمتغيرات ، أحد أسباب عدم مقدرة التجربة على الصمود..
فما الذي بقي من تلك الظروف والأجواء الإيجابية الواعية ، بعد نصف قرن من غياب قيادة عبدالناصر التاريخية ؟؟
هل بقيت حاجة إلى ” الحركة العربية الواحدة ؟؟
كيف حال الشباب العربي اليوم وما هي مستويات وعيه السياسي وإلتزامه النضالي ؟؟
ما هي إهتماماته الحياتية وتطلعاته المستقبلية ؟؟
كيف أثرت العولمة الرأسمالية على تفكيره وإهتماماته بشكل سلبي يعيق المشاركة النضالية الفاعلة ؟؟
هل يتمتع شباب عربي بما يكفي من الجدية والمسؤولية ، ما يحمله على الإستجابة لبناء ” حركة عربية واحدة ” ؟؟
هل يملك من الوعي ما يجعله يدرك أهمية وحدة المصير العربي ؟؟
أين موقع القوى والأحزاب والحركات السياسية العربية ذات الأفق العربي القومي من الدعوة إلى تأسيس حركة عربية واحدة ؟؟ وهل لا تزال راغبة في تأسيسها أم أن واقعها ” الوطني ” قد إستوعب جهودها وطاقاتها النضالية ؟؟
هل ما تزال الحركة العربية الواحدة حاجة نضالية عربية ؟؟
وهل تبقى بصياغتها المجيدة صالحة لهذا الزمن الرديء ؟؟
هل لا يزال الوقع العربي يوفر إمكانيات موضوعية لبناء حركة عربية شعبية واحدة؟؟
نعتقد بموضوعية كبيرة أن ثمة حاجة ماسة لحديث مماثل وإن بصيغ ممكنة واقعية ملائمة تأخذ بالاعتبار كل المتغيرات التي طرأت على الواقع العربي في نصف القرن المنصرم..
وعلى الرغم من كل المتغيرات السلبية وسواد المشهد العربي الراهن ، نرى أن ثمة حديثا واجبا عن ” حركة نضالية عربية واحدة ” ..
بل وبسبب تلك المتغيرات وذلك السواد القاتم ؛ وجب حديث عن مثل تلك الحركة …فالوجود العربي برمته مهدد ومستهدف ..فما العمل ؟؟
يتبع..