بعد محاصرة مبنى الكونغرس الأمريكي في واشنطن من قبل الجموع الحاشدة التي جاءت ملبية لدعوة الرئيس دونالد ترامب في 6/1/2021 واقتحام ساحات المبنى وغرفه الداخلية، وأعمال العنف والفوضى التي رافقت ذلك، لم تعد المسألة تتعلق بالتصديق على نتائج الانتخابات أو قبول اعتراض الرئيس ترامب عليها، ولا من سيكون الرئيس للولايات المتحدة، بل أصبحت المسألة وماذا بعد؟
فأنصار ترامب لم يقفوا وراءه بهذا الزخم والقوة من أجل شخصه فقط، لكن من أجل ما يمثله ترامب وما يؤمنون به من افكار وقيم، وبعد اليوم لا شك بأنهم سيحشدون قواهم بطريقة أفضل، وسيسعون لتنظيم أنفسهم ووضع الخطط لعملهم السياسي.
لكن من هم أنصار ترامب؟ وما هي أهدافهم؟
يمثل ترامب النزعة القومية الأمريكية التي ترى أن العنصر الأبيض هو صاحب أمريكا، فهو الذي بنى الدولة والاقتصاد، وأن ذلك العنصر بثقافته الغربية المسيحية لم يعد يطيق أن يعيش وسط كل أولئك الأجانب الذين يكادون أن يصبحوا الأغلبية في أمريكا، وأن الديمقراطية حين يتوسع تطبيقها سوف تؤدي إلى ذوبان الهوية الغربية – المسيحية، وصعود (الأغراب) إلى الصفوف الأولى للسلطة، هكذا فإن أمريكا في الطريق لتسرق من بين أيديهم، وتصبح دولة لمختلف الأعراق والثقافات.
وجدت تلك النزعة باستمرار في الولايات المتحدة، وكانت موجهة في السابق ضد المواطنين من أصول أفريقية على وجه الخصوص، وفي سياق التطور التاريخي ونمو الاهتمام بحقوق الانسان، فقد تراجعت نحو الوراء، لكنها اليوم تعود للظهور لتشمل كل (الأجانب) أو (الأغيار) الذين وفدوا لأمريكا من مختلف بقاع العالم وازداد عددهم حتى يكاد يطغى على الأمريكيين البيض.
لا يمكن فصل نمو التيار القومي اليميني عن الأزمة الاقتصادية، ففي أوقات الازدهار الاقتصادي سينشغل الجميع بتنمية مواردهم، وسينظرون لتدفق العمال الأجانب كضرورة لتشغيل مصانعهم ومختلف قطاعات الانتاج والخدمات بأرخص الأسعار. أما في الوقت الراهن وبعد عام من الإغلاق التام أو الجزئي للبلاد والإجراءات الصارمة للتنقل والحياة والتي تسببت في انتكاسة اقتصادية ربما تكون الأكبر منذ وقت طويل، وما رافق ذلك من ارتفاع لمستوى البطالة، فقد أصبح منظر العامل الأجنبي، وحتى المواطنين الأمريكيين من العروق الأخرى، مثيرا للضيق، وربما يقول لسان حال التيار القومي اليميني: لماذا نتحمل هؤلاء؟ لماذا نصرف لهم المساعدات الاجتماعية؟ ولماذا نتحمل عاداتهم وثقافاتهم المختلفة؟ طالما أن المصانع لم تعد بحاجة إليهم، ورجالنا يجلسون في البيوت بلا عمل.
ليس سرا أن الديمقراطيين اكتسبوا شعبيتهم وتمكنوا من إيصال مرشحهم بايدن للفوز على أكتاف الأقليات المتعددة الأعراق والثقافات وإلى حد ما أصوات النساء والفئات الأكثر ليبرالية في المجتمع بينما انحازت كتلة كبيرة من المواطنين البيض لما كان يمثله الحزب الجمهوري من قيم تقليدية. لكن المفاجأة أتت من ولادة تيار أكثر تطرفا من داخل أنصار الجمهوريين استطاع أن يسحب نحوه فئات واسعة وبعد الحشد الكبير أمام مبنى الكونغرس وما جرى خلاله من مواجهات وأعمال عنف فقد أصبح خروج ذلك التيار عن إطار الحزب الجمهوري مسألة وقت.
ترتبط قوة النظام الرأسمالي بقدرته على احتواء الأزمات الاجتماعية عبر الديمقراطية، فكلمة السر لاستمرار النظام الرأسمالي كانت دائما شراء الاستقرار الاجتماعي بطرق متنوعة، وإتاحة الفرصة للتيارات المختلفة لتعبر عن نفسها داخل الهياكل السياسية الدستورية، ولن يسبب ضررا مهما بعض الحالات الاستثنائية التي تتضمن انفلات موجة غضب لسبب أو آخر في أماكن محدودة ولوقت محدود.
لكن خروج تيار قومي يميني ذي قاعدة اجتماعية واسعة عن الهياكل السياسية الدستورية، ولجوئه إلى اللعب خارج الملعب سوف يكون أمرا بغاية الخطورة في المدى الأبعد وأول ما يمكن أن يسفر عن ذلك هو انكفاء الولايات المتحدة على نفسها، وربما نشهد نمو سياسة أمريكية انعزالية مشابهة لما تتجه اليه السياسة البريطانية بعد خروجها من الاتحاد الأوربي.
ماذا يعني ذلك بالنسبة لنا؟
منذ الحرب العالمية الأولى وما أعقبها من تدخل عسكري وسياسي غربي في المنطقة العربية , عانت هذه المنطقة من سطوة الهيمنة الغربية كما لم تعان أية منطقة في العالم , وفي المنظور البعيد فإن الخلخلة الكبيرة لتلك الهيمنة التي ستكون نتيجة لانكفاء الغرب مع انكفاء قوته الضاربة الأمريكية سوف تخلق الفرصة لأول مرة للشعوب كي تتنفس خارج نطاق الهيمنة , أما في المستقبل القريب فستخلق الفرصة للقوى الإقليمية لتزداد في التمدد ولتملأ الفراغ في القوة الذي تتركه الامبراطورية الأمريكية خلفها بحيث تصبح الصراعات الإقليمية على النفوذ هي الأكثر حضورا في مشهد السياسة العالمية .
402 3 دقائق