كانت ” حركة فتح “، مدرستي السياسية الأولى. انتسبت اليها تنظيميا في مطلع عام 1968، وكنت في السادسة عشرة. اتذكر جيدا أن أهالي مدينتي حلب كانوا يتدافعون فوق بعضهم البعض لقراءة بيانات فتح الملصقة على جدران المدينة، وتضمن الاعلان عن العمليات الفدائية التي بدأت تتكاثر ضد العدو الاسرائيلي.
واهتديت بالصدفة الى مكتب الحركة الرسمي في حلب، وصرت أزوره طالبا منه تزويدي بنسخ من البيانات لأنني أريد الاحتفاظ بها، لأهميتها الكبيرة في نظري. فصار المسؤولون في المكتب أصدقاء لي، يقدمون البيانات، ومجلة فلسطين الثورة الاسبوعية في ذلك الوقت، ومطبوعات أخرى. وبعد عدة شهور من هذه المتابعة طلبت الانضمام الى الحركة من مسؤولي المكتب الواقع في (العبارة) وسط حلب، ومركز المدينة، فقبل الأخوة طلبي، وأصبحت عضوا، ارتبط بعلاقة تنظيمية مع الاخوين أبو صالح وأبو السعيد.
في حزيران 1970 التحقت بصحبة ثلاثة أصدقاء سوريين بمعسكر تدريبي على السلاح وتثقيفي في غوطة دمشق ، وكان معسكرا نموذجيا من حيث التنظيم والاعداد ، خصوصا لأنه ضم عشرات من الشباب العرب من لبنان والجزائر والكويت فضلا عن سورية وفلسطين ، وتضمن البرنامج تدريبا على السلاح في النهار ، وندوات سياسية في المساء يشترك بها كبار المسؤولين الفتحاويين ، وكان الموضوع الرئيسي مشروع روجرز الذي وافق عليه جمال عبد الناصر ، ورأى فيه كثيرون خطوة استسلامية من الزعيم الخالد ، في ذلك الوقت وكذلك الصراع بين فصائل الثورة الفلسطينية والجيش الاردني ، وكانت النقاشات بين أعضاء المعسكر كافة تتسم بالخلافات الحادة ، تبعا للخلافات والانقسامات التي عمت كل العرب ، وكانت مقدمة تمهيدية لحرب أيلول الاسود ، تلك الحرب التي سقط فيها آلاف القتلى والجرحى من الطرفين العربيين ، وانتهت بوفاة جمال عبد الناصر ، وبخروج الثورة من الاردن الى لبنان ، وانقلاب حافظ الاسد على رفاقه بسبب انقسامهما بين مؤيدين للتدخل في حرب الأردن دفاعا عن الثورة ورافضين لهذا الاتجاه تبناه وجسده الجنرال حافظ الأسد وزير الدفاع الذي سلم الجولان عام 1967 للعدو الاسرائيلي بلا طلقة نار وأذاع بيان التسليم بصوته شخصيا ، وكان معه في انقلاب 1970 الجنرال مصطفى طلاس رئيس الأركان الذي تربطه مع وصفي التل علاقة مصاهرة، وكان طلاس والأسد على اتصال مع النظام الاردني عبر التل .
في عام 1972 شاركت بمعسكر ثان لفتح في مصياف الواقعة في ريف مدينة حماة.
في عام 1971 جاءني وفد فتحاوي قيادي من دمشق، وبعد حوار طلب مني الأخوان الزائران بالبدء بتشكيل خلايا لحركة فتح من الشباب السوري المساند للثورة الفلسطينية حصرا. وبدأت فورا بتنظيم الكثير من الأعضاء، حتى بلغ عددهم عام 1976 أكثر من مائة عضو في حلب، وكانت اجتماعاتهم ودوراتهم التثقيفية تتم بالتعاون بيني وبين قيادة فتح في حلب، وعلمت من القيادة أن هناك خلايا ومجموعات مشابهة في بقية المحافظات السورية. وقد استمر نمو التنظيم حتى وقع الصدام والصراع بين فتح ونظام الأسد في لبنان، وانعكس بقوة على الساحة السورية ، حيث اعتقل العشرات من قادة ومسؤولي فتح في حلب ، فطلبت القيادة مني بوقف الاجتماعات لأسباب أمنية خوفا من انكشاف التنظيم السوري .
تلك الأحداث الخطيرة تركت آثارها بعمق على تطور الاوضاع في عموم المنطقة لاحقا ، ومهدت للحرب الأهلية في لبنان بين غالبية قومية تقدمية مساندة للثورة الفلسطينية ، وأقلية إنعزالية معادية تحالفت مع العدو ، ثم للاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 ، وانسحاب المقاومة الى تونس والجزائر واليمن والسودان .
أحداث غارت بقوة في ذاكرتنا القومية الجمعية ، واحتلت حيزا واسعا من وعينا ، واصبحت تعيش معنا ، بل أصبحنا امتدادا حيا ودائما لها .
رحم الله قادة الثورة الفلسطينية التاريخيين ، وكل شهداء الثورة ، وعلى رأسهم أبو عمار ، وأبو جهاد ، وأبو إياد . قافلة طويلة من الشهداء ، وملحمة نضالية خالدة ، لا ينبغي أن تتوقف قبل تحقيق الهدف المرحلي الرئيسي ، إقامة الدولة الفلسطينية وفق قرار 242 في الضفة الغربية وغزة ، عاصمتها القدس ، ويعد القبول بأقل منه خيانة سافرة . والمطلوب من فتح قيادة النضال الفلسطيني بنفس الزخم والتصميم والمثابرة لاستكماله ، وتحقيقه ما بقي منه ، مهما تطلب من تضحيات وأكلاف . والمطلوب مجددا (ثورة في الثورة) الفلسطينية ، وإعادة الاعتبار للمقاومة والنضال بكل الوسائل .. وتجاوز تركة أوسلو التي أثبتت فشلها ، وافلاسها منذ أن استطاع العدو افراغها من محتواها الأصلي ، وأخذ منها ما يناسبه ، تاركا ما لا يناسبه .
كل الثورات التحررية التي انتصرت في التاريخ الحديث ، إنما كان انتصارها مرهونا بقدرة قادتها التاريخيين وثوارها على تجديدها ، والتجدد معها . وهذا ما ينبغي الآن على حركة فتح القيام به، لأنها لم تزل أم الثورة الفلسطينية المعاصرة ، وقاطرتها الأمامية الكبرى .
البداية والمنطلق التخلص من تركة أوسلو ، والعودة للنضال والمقاومة الشعبية استنادا الى برنامج ثوري .
400 3 دقائق