تعيش إيران، في هذه الأيام، حالة من القلق الاستراتيجي، لا تكفي استراتيجية “الصبر الاستراتيجي” التي تعتمدها القيادة الإيرانية للخروج من مأزق تصمّمه إدارة دونالد ترامب في أيامها الأخيرة، لوضعها على سكّة مآزق قد تكون طويلة الأمد، وقد تشكل نهاية لفعاليتها وأدوارها في المنطقة، وربما بداية النهاية لنظامها السياسي.
لم تكن عملية اغتيال المهندس محسن فخري زادة سوى خطوة على طريق صعب، يُراد لإيران السير عليه في قادم أيامها، حيث وضعتها عملية الاغتيال أمام خيارين سيئين: ابتلاع المهانة والصبر على الجراح إلى حين رحيل إدارة ترامب، أو الرد والمغامرة بإمكانية فتح حوار مع إدارة بايدن التي لم تخف تحمّسها لإعادة التفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي، بما يعنيه ذلك من رفع العقوبات الاقتصادية المنهكة عنها، وتفرّغها تالياً لصيانة حلقات نفوذها، وصولاً إلى إعلان المنطقة بين طهران وبيروت منطقة إيرانية خالصة.
مع أن الأيام الباقية من عمر إدارة ترامب قليلة بحسابات صانع القرار الإيراني، وقد لا تساوي عدد أيام حياكة سجّادة فارسية، إلا أن ترامب يمكنه فعل أشياء قد تجعل طهران تعيش تحت مظلة ارتداداتها الكارثية سنين طويلة، إذ تكفي أيام قليلة، لا تتجاوز أصابع اليد، لإحداث أضرارٍ ثقيلة وطويلة الأمد على إيران، بدليل التحشيد الهائل لأكثر أدوات التدمير الأميركية فعالية في المنطقة، من أساطيل وطائرات. وواضح أن إدارة ترامب لن تكتفي بمقدار الألم الذي سبّبته لطهران، بل هي ستستثمر استراتيجية إيران في “الصبر الاستراتيجي” إلى أبعد الحدود، وتكيل لها الضربات إثر الضربات، ما دام هذا الفعل يحقق لها أمرين على غاية الأهمية: ضمان إغراق إيران فترة طويلة في مصائبها، مع تعطيل أدوات فعاليتها في المنطقة، وهذا هدفٌ إسرائيلي لن يتوانى ترامب عن تقديمه هديةً لجماعات الضغط اليهودية في واشنطن، خصوصا أنه ينوي الترشّح للانتخابات الرئاسية 2024. إرباك إدارة بايدن، وإلزامها ضمن مسار واحد في تعاملها المستقبلي مع إيران، وهو المسار الذي رسمه ترامب، وإلا فإن بايدن، ومن خلفه الحزب الديمقراطي، سيظهران بمظهر من يفرّط بالمصالح الأمنية والاستراتيجية للولايات المتحدة.
ولكن إلى أي مدى تستطيع إيران الصبر، وما الضامن ألا يذهب ترامب إلى حد حرق أوراق إيران، عبر تدمير أصولها ومرتكزات قوتها؟ وما البديل عن سكوتها وصبرها؟ وماذا لو أن المؤسسات الأمنية والعسكرية الأميركية أعادت تقييم فعالية إيران، ووجدت أنها لم تعد تستحق التفاوض معها بعد المعطيات الجديدة التي أوجدتها ضربات ترامب قبل رحيله؟
يشكّل ترحيل الدبلوماسيين الأميركيين من العراق وإغلاق السفارة في المنطقة الخضراء مؤشّراً على نيات ترامب الذي يعرف، من خلال خبرة سنوات حواره العسكري مع إيران في العراق، أن السفارة والدبلوماسيين الأميركيين في بغداد كانوا دائما نقطة ضعف القوّة الأميركية تجاه إيران، إذ لطالما عملت المليشيات التابعة لإيران على استهداف السفارة الأميركية بعد كل عملية ضد المصالح والمليشيات الإيرانية في المنطقة. والآن ترامب يقول لإيران إنه يقلص خياراتها إلى أبعد الحدود، حيث يتزامن هذا الأمر مع احتمال انسحاب للقوات الأميركية من أفغانستان.
لا يبقى أمام إيران، في هذه الحالة، سوى خيارين سيئين: ضرب دول الخليج المتحالفة مع واشنطن، أو ضرب إسرائيل من خلال وكلائها في لبنان وسورية، والخياران ليسا أكثر من وصفة انتحارية، تدرك طهران حجم مخاطرهما عليها. وفي المقابل، تسعى إيران إلى تحويل المخاطر إلى فرص، من خلال تقديم نفسها لإدارة بايدن طرفا ملتزما ومنضبطا وخاضعا للقوانين والأعراف الدولية، وطرفا يستحق المشاركة في الترتيبات التي تريد إدارة ترامب صناعتها في المنطقة، كيف لا وهي قد حظيت بتعاطف أغلب دول العالم معها، الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا ودول عربية كثيرة شجبت عملية اغتيال زادة؟
تحاول إيران، قدر الإمكان، عبور هذه المرحلة الصعبة، إلى أن ينهي ترامب المتهور ولايته، لذا طلبت من جميع وكلائها الهدوء والتروّي، بل طلبت من قادة مليشيات تابعة لها، على ذمة مصادر عراقية، الاختباء، وأن يقللوا في المرحلة المقبلة من وجودهم العلني، تحسباً لحملة “قطع رأس” قد تطاولهم في آخر أيام الجنون الترامبي. ولكن، من غير المتوقع نفع هذه الترتيبات الإيرانية، أو قدرتها على ردع ترامب الذي يصغي جيداً، في هذه المرحلة، لقادة إسرائيل الذين يعتبرون أنفسهم أمام فرصة لن تتكرّر، وأن أي ضرر يلحقوه بالقوّة الإيرانية سيكون مكسباً مهماً، خصوصا أن أكلافه صفرية، في ظل إصرار إيران على نظرية “الصبر الاستراتيجي”.
في وقتٍ تتباهى فيه إيران بقدرتها على التحمّل والصبر في سعيها إلى تحقيق أهدافها، يبدو أن خصومها يريدون استثمار صبرها حتى آخر نقطة، وتدمير ركائز قوتها. وطالما أنه ليس لصبرها حدود، فإن طموحاتهم في إضعافها إلى أبعد الحدود ليس لها حدود أيضاً، وقد يتذرّع ترامب بأي ذريعةٍ لشن حرب على إيران، بدأت مؤشّراتها تتكاثر.
المصدر: العربي الجديد