كان عليك أن تقطعها يا هابيل

علي محمد شريف

بالعودة إلى تاريخ الإنسان منذ وجوده على الأرض نجد أنه لجأ إلى القتل وسيلة لفرض قراره ورغباته على من وما حوله، وللاستحواذ على ما يرغب في امتلاكه دون اكتراث بإراداتٍ وحقوقٍ منحتها سنّة الخلق له وللآخر يشاطره بها، ويشترك معه في الانتفاع بما تتوافر عليه الطبيعة الممنوحة لهما، فكان أن انتزع قابيل من أخيه هابيل حياة وهبها الله له لينتهك أولى الوصايا، ويعبّد لغيره من المنحرفين طريقاً للظلمات لم تردع الأديان والتعاليم السماوية من سلكه، ولم يفلح الفكر الإنسانيّ والقوانين والأنظمة في إغلاقه أو الحدّ من اتساعه وامتداده.
المنطق البسيط كان يفترض بقابيل البحث عن صيغ مختلفة تمكنه من تجنّب ارتكاب المعصية الأخطر، أو الاحتكام والخضوع للتشريع السائد بديلاً من سلوك سبيل القوّة العارية الذي أهدر دماً طاهراً ونفساً بريئة، وأفقد العائلة البشرية شعوراً بالسلام والطمأنينة والأمن، ووضع العالم في حالٍ من الاحتراب والصراع بين الإنسان وأخيه على ما يظنّه مصالح هي في حقيقتها ليست سوى رغبات بهيمية بالهيمنة والسيطرة، وأطماع بالتملك غير المشروع لما هو حقّ طبيعيّ للغير.
لعلّ الغضب والغيرة والحقد، وغير ذلك من مشاعر سلبية تفقد صواب من تصيبه، من الأسباب الرئيسة لسلوك قابيل الدمويّ، لكنّ إصراره على تحكيم منظومته الرغبويّة المختلّة واندفاعه لتلبية غرائزه وإخضاع عائلته لمشيئته غير المنضبطة، هي في الحقيقة الأسباب الجوهريّة التي زيّنت له درب الخطيئة، ودفعت به لإزهاق الروح وارتكاب المعاصي والاستيلاء على ما ليس له فيما يعدّ خرقاً للقانون الطبيعي وتعدّياً على حقوق الآخرين إن لم نقل امتهاناً وسلباً وغصباً.
بالمقارنة بين عقلانيّة هابيل وتسامحه وتمسّكه باتباع نهج السلم، وبين تطرّف قابيل وعناده الأهوج وقراره الخوض في مسالك العنف، تظهر بجلاء جدليّة الخير والشرّ وطبيعة المواجهة المحتومة بين مسارين متضادّين في بنيتهما وغاياتهما ومآلات كلّ منهما، فالخير إبداعٌ يعتمد الفكر، ويستمدّ قوّته من قيم الحقّ والعدل والحرية، ويسعى إلى هندسة الطبيعة وإعمارها بما يضمن السعادة والرفاه لجميع البشر، فيما يميّز الشرَّ خروجٌ عن المنطق، وغلوّ في تمجيد الذات وتصوّراتها اللامعقولة، ولجوؤه إلى انتهاك قدسيّة الطبيعة وقوانينها العادلة إشباعاً لشهوات أنانيّةٍ فرديّة، وبغية الهيمنة على مقوّمات الحياة وعناصرها والوصول إلى السلطة المطلقة يعتمد الشرّ على القوّة الغاشمة المدمّرة ما يؤول بالعالم إلى الخراب والموت.
لقد قابل هابيل عدوان أخيه الجاهل وبغيه وتصلّبه في الباطل بمنطقه الناصح وبنهجه المتسامح المبنيّ على الحقّ، ودفع حياته انتصاراً للحرية والعدالة والجمال، وبالرغم من الندم والتبكيت والوحشة التي لازمت قابيل في عزلته المؤقتة، إلاّ أنّ نهجه في القتل والإجرام سرعان ما عمّ وانتشر ليغدوا جائحةً تضرب أطنابها في الأرض، ووباءاً معدياً أصاب كثيراً من الأفراد والجماعات والحكومات وبات يهدّد الثقافة الإنسانية ومنظومة القيم والمبادئ الطبيعية للعالم، فها هي الحرب الظالمة على الشعوب المطالبة بحقوقها تمتدّ وتتسع رقعتها ، كما أنّ وسائلها وأدواتها وآثارها في الإبادة والتدمير الشاملين تتطوّر بفضل المعارف والعلوم التي تنهض لخدمتها، ولم يعد للوصايا السماوية ولا للمنجز الفكري والفلسفيّ والقانوني من قوة أو تأثير على قوى الشرّ والظلام لردعها، بل أصبحا وسيلة يتمّ ليّ مقولاتهما، وتحريف محتواهما لتبرير الإجرام تحت عناوين ومفاهيم يتمّ إكساؤها أردية زائفة ومضللة كمثل التطرّف والاعتدال والتحضّر والإرهاب والمقاومة والتطبيع وغيرها.
“لئن بسطت يدك لتقتلني ما أنا باسط يدي لأقتلك” هكذا كان جواب هابيل لأخيه الذي يتوعّده بالموت، ليس لضعف فيه ولا مسكنة أو استعطافاً، إنما هو ردّ العاقل العارف والمؤمن بقوة الحقّ وغلبة المنطق، لكنّ قابيل بعنجهيّته وطمعه وبإصراره على الجريمة لم يثنه التسامح ولم يصغ إلى صوت العقل، إنما مضى في تنفيذ قراره بإعدام فطرة الإنسان المجبولة على الخير ليسجّل الانتصار الأوّل للظلم ممهوراً بختم الشرّ.
وفيما يد الجمال ما فتئت بيضاءَ مرفوعة نحو السماء وممدودة لمن يعي ويفكر وينشد الأمن والسلام والسعادة، لا تزال يد القبح طليقة توغل في مستنقع القيح والدمّ، تضرب بمنجلها أصابع تحمل ورد الحلم وتغرس شتلات الأمل.
أليس ثمّة ما يدعو هابيل هذا العصر لكي يبتدع استراتيجية جديدة في معركة وجوده المهدّد بالفناء، وأن يحشد ما يستطيع من فكرٍ ومعرفةٍ، ومن قوّة تقطع اليد المبسوطة لقتله وتهزم قابيل المتكاثر فينا وتمحق هذا القهر؟
المصدر : صحيفة اشراق

زر الذهاب إلى الأعلى