يتداول رواد التواصل الاجتماعي في إيران، مقطع فيديو تظهر فيه فتاة، ملقاة على الأرض، وهي تتعرض لاعتداء دموي على يد امرأتين ورجل أمن، ويظهر رجل الأمن في الفيديو وهو يضربها بعصا غليظة ويركلها بقدمه، ثم يضع يده على صدرها لجهة قلبها، كأنه يحاول أن يتأكد أنها ما زالت حية.
أثار هذا الفيديو موجة من الغضب لدى الرأي العام الإيراني، بخاصة بعدما كشف الصحافي المحلي درويش معماري أن الفتاة تعرضت لاغتصاب متكرر من قبل مديرها في العمل، وهي حامل منه، وقررت أن تواجهه، فذهبت إلى منزله، حيث تصدت لها زوجته وامرأة أخرى من العائلة واعتدتا عليها، وعاونهما رجل أمن كان موجوداً في الجوار.
وفيما ظل اسم الفتاة طي الكتمان، واكتفى النشطاء بتسميتها بـ”فتاة عبادان”، نسبة إلى مدينة عبادان الواقعة في محافظة خوزستان، أعلنت شرطة المحافظة، أنها ألقت القبض على المتهم وهو مدير قسم النقل والمواصلات في مصفاة عبادان النفطية أحمد جهان نجاديان، في حين روجت وسائل إعلام رسمية، منها هيئة الإذاعة والتلفزيون (صدا وسيما) أن الفتاة اقتحمت المنزل بغرض السرقة، وهي تحمل سلاحاً أبيض (شفرة)، أما مقطع الفيديو المتداول فمفبرك، وقد أعده “الإعلام المعارض” بهدف تشويه سمعة الجمهورية الإسلامية”. وإمعاناً في التلفيق، بث التلفزيون الرسمي الإيراني مقطع فيديو، لفتاة لا يظهر منها سوى عينيها، ادعت أنها “فتاة عبادان”، واعترفت أنها هاجمت المنزل بهدف السرقة، وفي الفيديو نفسه، ظهر رجل عرّف عن نفسه أنه والد الفتاة، وقال إن ابنته تعاني من مرض نفسي وتتناول أدوية مهدئة للأعصاب، ولاحقاً، أشار عدد من أصدقاء الفتاة إلى أن والد الفتاة ميت.
أعادت هذه الحادثة، بما تحويه من غموض وروايات متناقضة، قضايا الاغتصاب والتحرش في إيران، إلى الواجهة مجدداً، إذ يعدّ التحرش الجنسي بالنساء في الأماكن المزدحمة مثل: مترو الأنفاق، الحافلات، الحدائق العامة، الشوارع وأماكن العمل أمراً شائعاً، تتعامل معه الدولة بكثير من الإهمال، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع حالات الاغتصاب.
وبحسب الإحصاءات الصادرة عن مجموعة من القضاة العاملين في هذه القضايا، فقد تم الإبلاغ عن 1313 جريمة اغتصاب عام 2014، كما وصل عدد حالات التحرش بالنساء والفتيات، في السنة نفسها، إلى 142933، وتصدرت محافظة طهران أعلى نسبة، بمعدل 1650 جريمة جنسية سنوياً، رغم أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من 80 في المئة من حالات الاغتصاب لا يتم الإبلاغ عنها لأسباب مختلفة، عدا أنه تُستخدم في كتابة المحاضر، مفردات مثل: عمل قبيح، غير أخلاقي، فساد وأحياناً زنا، للتعريف عن الجرائم الجنسية المصرح عنها.
تواجه ضحايا الاغتصاب في إيران، ضغوطاً عائلية ومجتمعية تفوق طاقاتهن على الصبر والاستمرار، ما يدفعهن إلى اللجوء، في بعض الأحيان، خصوصاً في المناطق الريفية والقبلية، إما إلى الانتحار أو الفرار، وكثيرات منهن يقتلن بعد العثور عليهن لاحقاً، بذريعة غسل العار.
أما المانع الأكبر، الذي يجعل الضحايا يفضلن الخيارات المرة، على طلب حماية القانون، فهو القضاء الإسلامي نفسه، فمن ناحية سياسية، إذا كان المغتصب من رجال النظام، فلا أمل للضحية بإدانته، كما حصل في قضية المتحرش الأكبر قارئ القرآن سعيد طوسي المقرب من المرشد السيد علي خامنئي، وأحياناً لا أمل لها بالحياة، كما حصل مع الشابة ريحانة جباري، التي أعدمتها السلطات الإيرانية، لأنها طعنت مغتصبها حتى الموت. ومن ناحية قانونية، يفتقر القضاء الإسلامي في إيران إلى مفردات صريحة لوصف الاعتداء الجنسي، فقانون العقوبات الذي وضعته الثورة، استناداً إلى الشريعة الإسلامية، لا يحتوي تعريفاً حقوقياً دقيقاً لجريمتي الاغتصاب والتحرش. أساساً لا يعترف القانون الإسلامي في إيران، بالاغتصاب كجريمة، وفي أغلب الأحيان، يتم التعامل مع هذه القضايا من منظور الزنا، حيث يساوي الاغتصاب بالزنا، ويعرفهما على أنهما علاقة جنسية غير شرعية، وغالباً ما تصدر الأحكام المتعلقة بقضايا الاغتصاب، بإدانة طرفي العلاقة، وتعتبر المغتصبة مذنبة مثلها مثل المغتصب، هذا في حال اعترف الجاني، أما في حال تعذر على الضحية إثبات مظلوميتها، في ظل نفي الجاني جريمته، تصبح الضحية مذنبة، وتعاقب بدلاً منه بتهمة الزنا، وعقوبتها الجلد أو الرجم أو الإعدام في بعض الأحيان.
هذا التداخل المتعمد بين أحكام الزنا والاغتصاب في قانون العقوبات الإسلامي، هو من أهم الأسباب التي تمنع ضحايا الاغتصاب من اللجوء إلى القانون، وفي الوقت نفسه، هو السبب الأول لارتفاع جرائم الاغتصاب والتحرش أو استسهالها في إيران.
وإضافة إلى هذا القانون الجائر، يعتبر المجتمع الإيراني، مجتمعاً تقليدياً في الغالب غير داعم لضحايا الاغتصاب والتحرش الجنسي، فمعظم اللواتي استطعن النجاة من القانون والمجتمع، يتحدثن عن نقص كبير في الدعم المعنوي لقضاياهن، ومنهن من يعتبرن أن عائلاتهن (الأب والأم والأشقاء) شركاء مع الجناة، إذ ينسون الجريمة وينصرفون إلى لوم الضحية.
وسط هذا السواد كله، شكلت حملة #me_too بالفارسية: #من_هم، التي أتت متأخرة 3 سنوات، عن إطلاقها في دول العالم، بارقة أمل لضحايا الاغتصاب والتحرش في إيران، إذ شجعت التجارب التي تم تداولها على صعيد العالم، مئات الضحايا الإيرانيات، على عرض تجاربهن، على الملأ، فاندفعن بحماسة وجرأة عبر صفحاتهن الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، إلى فضح المرتكبين، وكان بينهم مسؤولون في الدولة وفنانون وصحافيون معروفون ورجال أمن وأرباب عمل وزملاء وأفراد من الأسرة. وأدت الحملة إلى كشف هوية أكبر المغتصبين في إيران، المدعو كيوان إمام وردي واعتقاله، وقد اعترف باغتصاب أكثر من 300 فتاة خلال عشر سنوات، عبر استدراجهن إلى منزله ودس مادة مخدرة في شراب يقدمه لهن، إذ يقوم بممارسة الجنس معهن ويوثق ذلك بتصوير شريط فيديو.
إضافة إلى ذلك، مهدت هذه الحملة، الطريق أمام النساء لطرح أسئلة وفتح نقاشات جنسية توعوية، من قبيل: كيف تواجهين التحرش الجنسي؟ لماذا تلوم غالبية ضحايا الاغتصاب أنفسهن؟ ما الذي يشجع المعتدي على تجاوز الخطوط الحمر؟ لماذا “لا” في العلاقة الجنسية، لا تعني “لا”، عند الكثير من الرجال الإيرانيين؟ عند ممارسة الجنس، كيف يمكن أن يفهم الشريك أنك لا ترغبين في الاستمرار؟
كما انضم إلى الحملة عدد كبير من الرجال، كانوا بدورهم، يوماً ما، ضحايا اعتداءات جنسية، وآخرون اعترفوا بأنهم أساءوا عمداً أو عن غير قصد إلى النساء، وأكد كثر منهم، أنهم يفتقرون إلى الوعي، حول الأطر الصحيحة لـلعلاقة القائمة على الرضا المتبادل، بسبب المفاهيم الاجتماعية والدينية السائدة في المجتمع الأبوي الإيراني.
يبدو أن “فتاة عبادان” التي كانت ضحية اغتصاب متكرر في مكان عملها، قد وجدت في حملة #من_هم، فرصتها لفضح الجاني ومحاكمته أمام الرأي العام، فذهبت بكل جرأة لمواجهته، لكنها لاقت ما لاقته من عنف إضافي، إلا أنها أيضاً حصلت على تعاطف ودعم لا حدود لهما من مواطنيها، الذين حولوا قضيتها إلى قضية رأي عام.