الطوباوية الروسية بالنسبة إلى الشرق الأوسط

فيتالي نعومكين

في الأسبوع الماضي، قدم أحد ألمع مراكز الفكر ذات التوجه الليبرالي في روسيا – نادي «فالداي» الدولي للحوار، المعروف على وجه الخصوص بتقاريره التحليلية السنوية عن الشرق الأوسط، تقريره الجديد غير العادي بعنوان «طوباوية العالم متعدد الأوجه: كيف يستمر التاريخ؟». ويعتبر هذا التقرير غير عادي لأن المؤلفين المبدعين، كما هو الحال دائماً، يحاولون تخيل ما سيكون عليه العالم في عام 2045 عبر بناء جسر من الحاضر إلى المستقبل.

والحاضر يثير قلقهم: لقد أصبحت جائحة النوع الجديد من الفيروس التاجي، حافزاً لتحللٍ خطير للنظام العالمي القديم والمألوف. وكما قال المؤلفون في تقريرهم السابق إن «العالم ينهار».

يقدم المؤلفون وصفاً لخطاب الأمين العام للأمم المتحدة الذي يحمل اسماً مشابهاً للأسماء في ميانمار، غان توين إنغ، خلال اجتماع احتفالي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيروبي، في 23 سبتمبر (أيلول) 2045. حسناً، ربما سيتم نقل المقر الرئيسي لهذه المنظمة إلى أفريقيا بحلول ذلك الوقت، لكن في هذه الحالة أليس من الأفضل نقلها إلى القاهرة؟ آمل أن يكون الأمين العام للأمم المتحدة مسلماً قبل ذلك بكثير. جزء كبير من التقييمات التنبؤية التي قدمها المؤلفون لنتائج الربع القادم من القرن تم طرحها على لسان الأمين العام الوهمي.

ربما يمكن أن نتفق مع افتراض أعضاء نادي «فالداي» أن جائحة «كوفيد – 19» ستكون فقط هي الأولى بين سلسلة من هذه الكوارث. لكنهم في نفس الوقت ما زالوا متفائلين: في غضون خمسة وعشرين عاما، بعد أن ننجو من عدة تفشيات لفيروسات جديدة مختلفة، سنتعلم كيفية التعامل مع مثل هذه التحديات، ونكتسب الخبرة حول كيفية تقليل الأضرار الاقتصادية والمخاطر على حياة البشر. لكن «سلامة العالم وتكامله تنتهك اليوم. التنقل أصبح شبه معدوم. خَلْفَ الحديث عن الحاجة إلى العمل المشترك ازدهرت الأنانية القومية… تفتتُ العالم أخذ طابعاً حاداً. بدأوا يتحدثون عن انهيار المؤسسات الدولية وحلول الفوضى المليئة بالاضطرابات وصولاً إلى حرب كبرى». إنه لأمر مثير للقلق، لكنه طُرِحَ بشكل جيد. وماذا عن أحد الاستنتاجات الرئيسية التي توصل إليها مؤلفو التقرير: حول «تفكك الجماعات وانعزال الأفراد»؟ وحول الخلل في جميع المؤسسات الدولية؟ ربما هو كذلك. لكن الإيجابية في صورة كئيبة مهمة أيضاً أن «هذا يدفع الناس والدول إلى مزيد من الاستقلال في صنع القرار، والوعي بالمسؤولية عن بقائهم».

رغم فشل المؤسسات الدولية، فإن الأمم المتحدة بعد تطويرها، كما يعتقد المؤلفون، ستلعب دوراً مهماً في المستقبل. يرى المؤلفون أن «الأخلاق» ستصبح عنصراً ومفهوماً رئيسياً في الصورة المستقبلية لهذه المنظمة وفي دورها. بالطبع، من الصعب اليوم أن نصدق أنه في عالمنا الذي تمزقه التناقضات، سوف يسترشد السياسيون بمقتضيات الأخلاق، لكن من يدري، لربما يتحقق هذا الحلم الطوباوي.

لكن حتى في الوضع الحالي، يرى مؤلفو التقرير الكثير من الجوانب الإيجابية، حيث يؤدي إضفاء الطابع الفردي على مسارات التنمية إلى تنظيم المساعدة المتبادلة على المستوى الشعبي، إذ لا يبحث الناس عن إجابات في إطار فريق رسمي أو (مؤسسة) بل من خلال الأشخاص ذوي الآراء المشتركة واتحادهم وفقاً لاهتمامات محددة، وتساعدهم في ذلك ظاهرة الشبكات الاجتماعية.

تستند طوباوية السياسة الدولية الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين، وفقاً لأعضاء نادي «فالداي»، على الحاجة إلى تحقيق «انسجام الاعتدال»، عندما لا يستطيع أحد الحصول على كل شيء. يعتقد المؤلفون، أنه في إطار مثل هذه الطوباوية، ستُحلُّ المشكلة المركزية للعلاقات الدولية التي صاغها البروفسور الأميركي الشهير جون ميرشايمر بقوله: «القوى العظمى تبحث دائماً عن كيفية كسب السلطة على منافسيها، وهدفها النهائي هو الهيمنة». يرى مؤلفو التقرير أن الهيمنة لم تعد ممكنة، والسعي إليها لم يعد عقلانياً. بالمناسبة، البروفسور جون ميرشايمر شارك بنفسه في مناقشة التقرير أثناء تقديمه، ولا يبدو أن المؤلفين قد استطاعوا إقناعه.

مؤلف هذه السطور ألقى كلمة أيضاً، حيث أشار من خلالها إلى أن التقرير يعرض التناقضات المعقدة والتحديات والتهديدات للعالم الحديث في سياق اجتماعي، ويهمش 3 منها على الأقل في غاية الأهمية تتعلق بالنظام البيولوجي والبيئي:

أولها: الصراع السريع التطور اليوم بين الإنسان والمجتمع من جهة والطبيعة من جهة أخرى. في هذا السياق، يمكن تسمية الأوبئة التي تصيب البشرية، من الواضح أننا نتحدث عن تهديد طويل الأمد لا يمكن اختزاله في (كوفيد – 19)، والأوبئة الحيوانية، والنباتية، وتغير المناخ، وارتفاع مستوى مياه المحيطات العالمية (الذي يهدد بشدة عدداً من دول الشرق الأوسط)، وحرائق الغابات، والأعاصير، والعواصف، وكوارث أخرى، واقتلاع الغابات، واختفاء أنواع كاملة من الحيوانات، وتدهور البيئة الطبيعية… إلخ. هل سيتمكن الإنسان من وضع حد للتعامل الوحشي مع الطبيعة؟ هناك دائماً ما يمكن مناقشته في أي رؤية طوباوية.

ثانياً: مشكلة عواقب الوباء على الجينات البشرية والحالة الصحية لسكان الأرض. الكثير من الدول تبني استراتيجية مكافحة الوباء على أساس تكوين مناعة جماعية، لكن المشكلة التي ذكرتُها لم يتم حلها بعد من قبل العلماء ولا حتى طرحها. لا أحد يعرف أيضاً ما هي العواقب المحتملة للتطعيم على نطاق واسع، وما إذا كان سيساعد بشكل عام ضد جميع الأنواع الجديدة من الفيروسات. لكن في الوقت نفسه، تصبح المنافسة على اللقاحات جزءاً من نظام العلاقات الدولية الذي يضيق فيه مجال التعاون بشكل كبير، وهذا واقع.

ثالثاً: هو الفاصل الذي وضع بين الأجيال 65 + و65 – (مع الطبيعة المشروطة لهذه الحدود، يمكن أن تكون 60 أو حتى 50). إن القيود المفروضة على جيل 65 +، من ناحية، لها ما يبررها من خلال العناية بهم، أو حتى من خلال الرغبة في إنقاذ حياتهم، لأن من بين الذين ماتوا بسبب «كوفيد – 19» أكثر من 80 في المائة من هؤلاء. ولكن، من ناحية أخرى، تؤدي هذه القيود إلى إزاحتهم عن الحياة النشطة لفترة غير محددة من الزمن، لا سيما أن درجة قدرتهم على استخدام الأجهزة الحديثة أقل من درجة قدرة جيل 65 -، فضلاً عن تفاقم التناقضات بين الأجيال. فهل يمكن أن يحدث تغيير في بنية سكان العالم على الإطلاق؟

عند الحديث عن عالم خالٍ من التواصل، والذي أسميه «اللاتلامسي»، من العبث أن يقلل المؤلفون من إنجازات بيروقراطية الدولة ذاتها، التي لا يتعاطفون معها. انظروا إلى النجاح المذهل الذي حققته السلطات الصينية في مكافحة الجائحة – يبدو وكأنه لم يكن هناك أي جائحة، وليس لديهم أي وفيات بسبب «كوفيد – 19»، ويستمتع عدد لا يحصى من المواطنين الصينيين مرة أخرى بالحفلات الجماعية، كما لو أنه لم يحدث شيء.

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي ألقى كلمة خلال الحوار، أيد الصيغة التي قيم بها واضعو التقرير الحياة الدولية الحديثة، وهي «التقلبية والاندفاعية». يعتقد الوزير لافروف أن العالم يمر بـ«عملية تحول عميق» تواجه مقاومة، بالدرجة الأولى من الدول الغربية.

تقييم الوزير الروسي لموقف أوروبا تجاه روسيا، وهي التي تم الإعلان مؤخرا عن عقوبات أوروبية جديدة ضدها، كان قاسياً بشكل غير مسبوق، حيث قال: «في السنوات العشرين الأخيرة، كان لدينا دائماً شعور بقيمتنا. لكن أولئك المسؤولين عن السياسة الخارجية في الغرب لا يفهمون الحاجة إلى محادثة تقوم على الاحترام المتبادل. ربما يتعين علينا التوقف عن التواصل معهم لفترة من الوقت، خاصة أن أورسولا فون دير لاين (رئيسة المفوضية الأوروبية) تقول: (إن الشراكة الجيوسياسية مع السلطة الروسية الحالية لا تعمل) فليكن، إذا كان هذا هو ما يريدون».

لم يتضح بعد كيف ستكون عواقب هذه الخطوة، بما في ذلك بالنسبة للشرق الأوسط، حيث يبدو أن روسيا والاتحاد الأوروبي لا يزالان يتعاونان بشكل بناء كشريكين في عدد من الملفات. بالمناسبة، كانت هناك مناقشات في وسائل الإعلام الروسية حول خطاب لافروف. التأكيد على كرامة روسيا وسيادتها أَعجب الجميع. جاء هذا منسجماً مع استنتاج التقرير: «كان أهم شيء في عام 2020 هو الإغلاق الواسع النطاق غير المسبوق للحدود – وهو رمز السعي لتحقيق أقصى قدر من السيادة». وكانت هناك أيضاً آراء ناقدة. لقد حث الاقتصادي نيكيتا كريتشيفسكي، على وجه الخصوص، الوزير على عدم الإفراط في مثل هذه التهديدات، حيث، كما يزعم كريتشيفسكي، إن روسيا «لن يكون لديها ما تأكله» بسبب ارتباطها بتصدير موارد الوقود.

بطريقة أو بأخرى، وفقاً لأعضاء نادي «فالداي»، رسمت الجائحة، بعد أن أصبحت صدمة للعلاقات الاجتماعية والسياسية المعتادة، خطاً رمزياً تحت وجود النظام العالمي الحالي وأصبحت بداية لنظام آخر.

ربما، في ضوء التحولات الجادة التي تحدث في الشرق الأوسط، يجدر بمراكز الفكر العربية أيضاً أن تبني تصوراً لما يمكن أن تصبح عليه المنطقة بعد ربع قرن.

المصدر: الشرق الأوسط

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى