ليست آخر المعارك، لكنها يمكن أن تكون آخر الهزائم، وأكبرها. في مثل هذه الايام من القرن الماضي، كان “الآباء المؤسسون” للبنان، يتبارزون مع الحركة الصهيونية على رفض كل منهم ضم شيعة جبل عامل الى الدولتين الوشيكتي التأسيس، اللتين لم تعترفا لا بوجود ولا بوزن تلك الطائفة المعدمة، المقطوعة عن أي شجرة، التي خابت محاولتها الالتحاق بمملكة فيصل الاول السورية.
شاءت الاقدار ان تنجح الحركة الصهيونية والحكمة (وربما الشفقة) الفرنسية في إقناع الكنيسة المارونية بأن يكون شيعة جبل عامل، والاقضية الاربعة أيضاً، جزءاً من دولة لبنان الكبير، التي كانت بحاجة الى أقلية إضافية سهلة الاستخدام، غير متمكنة من عصبيتها المذهبية.. وليس لها مكان في الدولة الصهيونية العتيدة، التي لم تكن بحاجة الى المزيد من الاقليات.
والتاريخ يحكي فصولا لا تنتهي عن رحلة الشيعة نحو العاصمة بيروت. رحلة الشقاء والعذاب، والنضال الطويل في الاجتماع والتربية والتعليم والثقافة والسياسة طبعا، من أجل تقديم أوراق الاعتماد لدى الدولة اللبنانية والانضمام الى مؤسساتها والمشاركة في صنع قراراتها. وهو ما يمكن قراءته في وقائع تلك الحقبة التي تمرد فيها الشيعة على الاقطاعين الديني والسياسي وانتظموا في الاحزاب اللبنانية، لا سيما اليسارية.. قبل ان يحصل الانقلاب السوري ثم الايراني اللذين صادرا الطائفة الشيعية لحساب مجهودهما الحربي، وساهما في خروجها المستمر حتى اليوم على الدولة اللبنانية.
لم يشعر الشيعة في اي يوم من الايام ان تلك المسيرة اكتملت، أو أنجزت، وباتوا طائفة راسخة في الدولة والنظام. كان عليهم ان يمضوا في الكفاح بشكل يومي من أجل نيل حقوقهم وحصصهم ومناصبهم في تلك الدولة، ومن أجل تحصيل الاعتراف الملتبس من إتفاق الطائف أنهم باتوا طائفة ثالثة، تسستحق لحجمها العددي دوراً أكبر في صنع القرار الوطني اللبناني.. إذا جاز التعبير، الذي لا يحتمل تجاهل الدور السوري ثم الايراني في بلورة ذلك القرار.
حتى الآن، وربما بسبب ذلك الدور السوري والايراني، المنافي لمنطق الدولة اللبنانية، ظل الإعتقاد سائداً بان الشيعة خوارج، لم تستوعبهم مؤسسات تلك الدولة تماماً ، ولم تتمكن طبعا من كسرهم أو عزلهم.. برغم ان مقاومتهم للعدو الاسرائيلي سواء تحت المظلة الفلسطينية او تحت العباءة السورية او العمامة الايرانية، كانت وسيلتهم لإعلان إنتمائهم الى لبنان والجهاد من أجل حماية أرضه وحريته ووحدته. وهو ما كان ولا يزال يثير الشك، لان تلك المقاومة أنتجت على الدوام قوة مضخمة ( مصطنعة) للشيعة جرى إستخدامها من أجل الاستقواء على بقية الطوائف، والتباهي بأدوار سياسية محلية لم تكن في غالبيتها في خدمة إستقرار الوطن وإزدهاره.
تجربة السنوات العشرين الماضية التي أعقبت تحرير الجنوب كانت فاضحة. فقد إنحدر الشيعة تدريجيا من ذروة الولاء والانتماء، والاحتضان الداخلي والخارجي الواسع، الى وراثة الدورين السوري والايراني وإستكمال برامجهما اللبنانية المشبوهة، والقيام بمهام سياسية وأمنية شديدة الاستفزاز والتحدي لبقية الطوائف والمذاهب.. تحتوي على قدر كبير من المبالغة، ومن هوامش الخطأ التي لا ترحم.
اليوم، يشهد لبنان واحدة من المفارقات الشيعية العجيبة: الطائفة الأقوى التي تغتال الرؤساء وتختار الرؤساء وتطرد الرؤساء، والتي تسيطر على المؤسسات والاجهزة والمرافق العامة كلها، على ما يشاع، تجاهد الآن، من أجل الحصول على وزير، ومن أجل الاحتفاظ بتوقيع. لا يمكن لهذا الجهاد أن يصنف من اسباب القوة وأدواتها، خاصة وانها مبني على إستخدام سلاح الدراجات النارية الفتاك، ضد إجماع طائفي نادر على رفض ذلك المطلب الشيعي “المتواضع”!
هي ذروة الضعف بلا شك. حق النقض ليس قوة. والتشدد في ذلك المطلب يحيل الشيعة مرة أخرى الى عبء على الدولة، والى مشكلة مع النظام. وهو يعيد الى الاذهان ظروف حرب العام 2006 ، التي تفردت بها الطائفة ، وعادت منها ب 1196 قتيلاً و7250 جريحاً وبدمارا هائل.. وإن كان يصعب الاشتباه الآن بان ثمة يداً خفية سورية أو إيرانية، تعرقل تشكيل حكومة لبنانية ، أو تعطل المبادرة الفرنسية ( التي لا تتعارض مع أهواء دمشق وطهران).
الشيعة الآن لوحدهم في هذه المعركة الحرجة. يريدون أن يبقوا على سوية واحدة مع الموارنة ومع السنة. فإما أن ينزلوا مرة أخرى الى مرتبة الدرجة الثانية التي تضم طوائف الاقليات الأصغر والاضعف، المشابه لرتبتهم في عشرينات القرن الماضي، أو أن يشعلوا حريقاً هائلاً، سيدفع الشيعة ثمنه باهظاً، لا يستطيع أحد في العالم تعويضه، لا سيما إيران وسوريا طبعا.. بينما المطلوب منهم تضحية بسيطة جدا، تختم ذلك الاستعراض السياسي الحرج، وتضع الجميع في لبنان وخارجه أمام إختبار تقديم تضحيات مماثلة.
المصدر: المدن