
تحت عنوان اللغة العربية والتواصل الحضاري، وفي احتفالية اليوم العالمي للغة العربية عام 2021، أفادت الأمم المتحدة، حسب موقعها الرسمي، بأنه “تُعد اللغة العربية ركناً من أركان التنوع الثقافي للبشرية. وهي إحدى اللغات الأكثر انتشاراً واستخداماً في العالم، إذ يتكلم بها يومياً ما يزيد على 400 مليون نسمة من سكان المعمورة”. جاء ذلك في سياق جهود الأمم المتحدة لدعم وتعزيز التعددية اللغوية والثقافية العالمية، إذ أصدرت الأمم المتحدة عشية احتفالها باليوم العالمي للغة الأم في 18 كانون الأول/ ديسمبر عام 1973 قرارها رقم 3190 (د-28) الذي يتضمن إدخال اللغة العربية مع اللغات العالمية الستة السابقة كإحدى اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة ولجانها ومنظماتها؛ بغية تعزيز التواصل العالمي وإذكاء الوعي بتاريخ اللغة وثقافتها وتطورها..
واحتفاء باللغة العربية اليوم هل يكفي أنها لغة الضاد؟ وهل تكتنف لغتنا ألواناً من الحضور الحضاري المميز؟
تطور اللغة يتم بتطور شتى مجالات الحياة المادية والثقافية المنتجة للمفهوم والصورة الحسية بآن، فالتقنية وعلوم المعلوماتية والاتصالات باتت متاحة لكل أرجاء المعمورة، وترميزها اللغوي واختصاراتها وطرق استخدامها متاح للفهم لدى الجميع بحكم الاستخدام، ومع هذا لم تتقدم كل مجتمعات المعمورة بالسوية نفسها، بل ثمة أقوام تبدي تشنجها وحذرها إزاءها. وبالضرورة لم تتشكل بعد مفاهيم الحضارة بمحتواها الفكري واللغوي والحياتي بصورة متوازية عالمياً، بقدر هيمنة موضوع التقدم العلمي. النقطة التي تبرز وضوحاً بإتقان اللغة الإنكليزية من دون ممارسة الحقوق الإنسانية والحياتية والقانونية، واختصار الحياة السياسية وممارسة الحريات الشخصية والعامة لمجرد التعدد اللغوي غير المرتبط عضوياً بالمعنى الحضاري. فالحضور العالمي للغات العصرية تعبير أولي عن التعدد الثقافي والتنوع الفكري العالمي، وهذا يعني السعي لتبادلها وحوارها عبر وسائل التواصل والترجمة واللقاءات المختلفة بين الثقافات المتنوعة، وترسيخ مفاهيم الحرية والسلام والعدالة وسيادة القانون، ضد مفهوم الهيمنة والاستلاب، الناتج عن التفوق العلمي أو السياسي وحسب.
الأهمية القصوى للتواصل اللغوي بين الثقافات المختلفة، تبرز من خلال الترجمة والوثوقية في صحة النقل والمعلومة، وذلك بغية الارتقاء بالصور المفهومية اللغوية المتنوعة والمتعددة لمستويات ثقافية متقاربة عالمياً، إذ ليس بالضرورة أن تنتج كل دول العالم تقنيات الجيل الخامس مادياً، فجميع الدول سوف تستخدمه كما تستخدم الطيارة للسفر بغض النظر عن صانعها، لكن عليها بالضرورة احترام ثقافات الدول والأمم الأخرى، وأساس هذا الاحترام السلام العالمي والتعايش السلمي واحترام الاختلاف. كما أن الميزات الثقافية للغة، كاللغة العربية، التي تتيح معاني وأسماء متعددة لمحتوى بيئتها المادية والحياتية كاسم الحصان مثلاً، يعتبر ميزة خاصة لا تقلل ولا ترفع من شأنها بين الأمم، بل وَجب احترامها كجزء من ثقافتها كما باقي ثقافات العالم. بالمقابل، ورغم وجود لغات خاصة لكل أمة كالعربية والصينية والفارسية والفرنسية والألمانية…، لكن، وحسب علوم السيمولوجيا الحديثة، فإنها تشترك بالموسيقا والمقاطع الصوتية الداخلية فيها. فحسب ريمون طحان في كتابه “فنون التقعيد وعلوم الألسنية”، وحسب علوم الصوتيات والفونتيك، حرف الضاد المميز للغة العربية، هو مميز شكلّي ليس إلّا، وتقطيعه لموسيقاه الداخلية يبرز أنه مشترك مع كافة المقاطع الصوتية في لغات العالم المختلفة ما يجعل الموسيقا الداخلية للغة نموذجاً عالمياً! وبالضرورة ما تتميز به اللغة العربية من أن حرف الضاد منطوقاً هو مجرد تمييز لفظي، في حين اللغة بمفهومها الحضاري تدلل على وحدة الوجود الكوني وإن اختلفت مناسيبه العصرية لفظياً، وهذا قبل تحديد مصير هذا الوجود حضارياً.
التنوع الفكري والثقافي وبالضرورة اللغوي يخالف موضوع الاستقطاب وحيد الاتجاه، سواء كان علمياً و/أو سياسياً. فالاستقطاب الاستلابي للغة الإنكليزية لا يعني محو ثقافات العالم المختلفة، والعكس لا يعني التمترس خلف ثقافة بعينها، بل هو ضرورة لتقديم اللغة بمحتواها ومضامينها الفكرية والموسيقية والحسّية والمادية كمحتوى حضاري لتصبح لغة تستحق الحضور العالمي. من هنا يمكن تحديد السمات العامة والمعايير الممكنة لتقدم اللغة العربية:
الاستقطاب الارتكاسي للغة العربية يظهر من خلال حركة التعريب، التي تحاول أن تنضح، من قعر لغوي عميق، معاني لغوية عربية بعيدة عن متناول اكتشافات العصر الحديثة، خاصة في مجالات الطب والتقنية والعلوم العصرية، وتعريب المصطلحات يفقدها معناها الدلالي والوظيفي.
يتيح التنوع الثقافي والفكري صوراً متغايرة لمعنى الوجود وأشكاله، فالثقافة Culture في اللغة الإنكليزية تعني الاهتمام والعناية ومنها اشتق مصطلح الهندسة الزراعية Agriculture ومعناه الاهتمام والعناية التقنية بالأرض مصدر الإنتاج الأولي، في حين هي باللغة العربية تعني في إحداها التمكن من العلوم والفنون والغنى الفكري والمعرفة الواسعة، وفي معنى آخر مشتقة من (الثقاف) وهي أداة المربي في تسوية الرماح، وثقف الشيء أي أقام اعوجاجه، ومنها تأديب الإنسان وتهذيبه! وذلك بغض النظر عن الطريقة والأداة. لنجد أنه ثمة ضرورة معرفية وفكرية ولغوية بآن لتطوير اللغة وتحديثها بمرجعية علوم الاجتماع والنفس والتربية الحديثة كمحتوى حضاري وليس لغويا وحسب، وذلك عبر التواصل والحوار المنفتح.
تعتبر الترجمة والوثوقية العمل اللغوي الخلّاق والأخلاقي في التواصل الإنساني، وبما أن الترجمة لا تقتصر على علوم التقنية والعلم بل تتعداها للفكر والثقافة، هنا تبرز الأهمية القصوى لدور المنظمات المدنية العربية والمؤسسات الفكرية غير الحكومية باضطلاعها بدور الوسيط المهم في الترجمة والنقل بين ثقافات العصر المتمدنة وثقافتنا العربية، خاصة في التأسيس لمستوى حواري عام بين المفاهيم العصرية المرتبطة بحركة التقدم الحضاري والمدنية بما فيها العلمي والفكري والحقوقي العام، وأهمه على الإطلاق حرية التفكير والإبداع وصونها دستورياً وسياسياً.
في اللغة يبرز التواصل الحضاري كعلامة سيميائية تدلل على وحدة الوجود الكوني وسلامة مصيره وأمنه، فرغم اختلاف اللغات البشرية، إلا أن الصور الذهنية للتسامح والإخاء والمساواة والعدالة، تكاد تكون متساوية مفهوماً عند جميع لغات العالم، والاختلاف الناشئ بينها يعزى لطبيعة النظم السياسية التي تحاول أن تجد لنفسها طرق إثبات حضور على سطح الكوكب من بوابة وحيدة، سواء كانت علمية و/أو سياسية و/أو عسكرية، أو حتى التمسك بالموروث دون تحديث فيه، ولا تتكامل معها المنتجات الحضارية في صورة أمة ذات ثقافة وحضارة عصرية. في حين تبدو الحرية وتلازمها مع القانون والمسؤولية لليوم قضية حضارية ولغوية عربية شائكة ومعقدة بآن!
عبّر محي الدين ابن عربي، الفيلسوف الإسلامي، قبل قرون من الآن، بلغته العربية كلغة حضارية وفكرية حينها، بقوله: “إن الزمان مكان سائل، والمكان زمان ثابت”، عن محتوى التقدم الممكن مع الزمن فكرياً وفنياً وعلمياً مع ثبات المكان والموطن، في حين يصبح هو ذاته، المكان، جامداً زمنياً ما لم يتحرك مفهومياً وفكرياً ولغوياً. وإذ تبدو جملته هذه سابقة لأفكار النسبية الحديثة فيزيائياً قبل تحققها العلمي العصري، إلا أنها دلالة على طريقة التفكير الحضاري في زمنه! وهي سؤال اليوم عربيّاً وتحدياته اللغوية. إذ لا يمكن الاكتفاء بأن العربية لغة البيان والإفصاح أو لغة “الضاد” قومياً، أو لغة القرآن الكريم إسلامياً، بل من الضرورة، وهي تحافظ على هويتها الحضارية هذه، أن تبحث لها عن مكانة عالمية تكتنز ثقافة وفكراً وعلماً، وشرط هذا الحوار والحرية والانفتاح وتحقيق الازدهار المادي والفكري المتوازي. حينها يمكن للعلم والفلسفة والفكر المدني دورٌ رائدٌ في تقدم الحضارة عربياً والتي تنعكس لغةً عربية عصرية، ومن هنا تبدأ إجابات مختلفة وأسئلة أخرى..
المصدر: تلفزيون سوريا





