أسئلة النصر والهزيمة

معين الطاهر

ثمة مقدّمات للحروب تقود إليها، وتجعل اندلاعها حتميّاً، فاستمرار النكبة والاحتلال، والحصار والاستيطان، والاجتياحات المتكرّرة، وتجاهل المجتمع الدولي، لا يمكن أن تؤدّي جميعاً إلّا إلى الحرب والمواجهة. وثمّة نتائج للحرب تعكس مساراتها وتداعياتها، وتفرض وقائع ومعادلات جديدة. وقد رسم الخبير الاستراتيجي الصيني صن تزو، قبل نحو أربعة آلاف عام، خطوطها ببراعة، “فمن يعجز عن استيعاب نتائج الحرب يفنى، بغض النظر عن قوته”. وهي معادلة تنطبق على طرفَي الحرب، المنتصر إذا بالغ وضخّم من حجم انتصاره، والمهزوم إذا استسلم لهزيمته، أو لم يعترف بها، وكم من مدّعٍ للانتصار هُزم لاحقًا، وكم من طرفٍ وُصم بالهزيمة، لكنه استجمع قواه، وعاد إلى ساحات الاشتباك أكثر قوة مما مضى! وقديماً قيل “الحرب سجال”، ونتيجة معركةٍ لا تحسم مسار الحرب، مهما كانت قاسية.
تنطبق القاعدة الذهبية التي قالها صن تزو بالضرورة على حرب الإبادة الجماعية التي شنّها الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وتوسّعت لتشمل الضفة الغربية، وامتدت إلى لبنان وسورية والعراق واليمن وإيران. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الحرب بمعناها الشامل لم تتوقف، وإنْ ثمة معارك تراجعت مؤقتاً في لبنان وغزّة وإيران واليمن، وهي مرشّحة لأن تتطور وتتصاعد في أكثر من جبهة، كما يحدث الآن على جبهات لبنان وغزة والضفة الغربية، وبوسائل تمتزج فيها المعارك الحربية مع أدوات الضغط السياسي والدبلوماسي، والحصار والتجويع والتهجير والاغتيالات، وصولاً إلى تجدّد الحرب واتساعها إلى مناطق أخرى في الإقليم.
تختلف معايير النصر والهزيمة، وتتفاوت الرؤى والتفسيرات حولها، سواء على جبهتنا أم على جبهة العدو، وكثيراً ما تتداخل فيها الوقائع والحقائق الملموسة، مع الرغبات والآمال والعواطف، والمناورات السياسية والمحاولات الشعبوية لكسب الجمهور. فإذا تجاوزنا مصطلح “النكبة” التي أصابت الشعب الفلسطيني في عام 1948، والذي يصوّر الهزيمة في الحرب، فإن التأريخ اللاحق لأداء الجيوش العربية اكتفى بالحديث عن إنجازاتها ومعاركها، مثل معركة باب الواد والقدس، وحصار الفالوجة، وتجاهل عجزها وفشلها وهزيمتها التي أدّت إلى خسارة العرب الجزء الأكبر من فلسطين، فتغلبت رغبة النظام العربي في تثبيت سلطته أمام شعوبه على مواجهة نتائج الحرب الكارثية.
في 1982، خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت، وسادت تقديرات بأفول مرحلتها، لتعود عبر بوابة الانتفاضة الأولى
وفي حرب حزيران/ يونيو (1967) التي عُرفت بحرب الأيام الستة، خُفّف المصطلح من هزيمة أو نكبة إلى “نكسة”، وادّعى النظام السوري أنه لم يُهزم، لأن هدف الحرب كان القضاء على الحزب الحاكم. لكن نكسة حزيران وهزيمتنا فيها أدّت إلى انطلاقة كبرى للمقاومة الفلسطينية، وتحوّلت لاحقاً إلى نصر عربي في حرب أكتوبر/ تشرين الأول (1973)، لم يعمّر طويلاً بتوقيع اتفاقات كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني، وأذنت بانتهاء الحروب العربية الرسمية مع العدو، وبدء مرحلة الحل المرحلي في الثورة الفلسطينية. وفي 1982، خرجت المقاومة الفلسطينية من بيروت، وسادت تقديرات بأفول مرحلتها، لتعود عبر بوابة الانتفاضة الأولى، وتشكّل الحجارة في تلك المرحلة أسطورة أقوى من السلاح، إلا أن الحلم الفلسطيني بحصد نتائجها السياسية سرعان ما تلاشى على وقع اتفاق أوسلو.
تقود هذه الشواهد كلها إلى أن مسألة النصر والهزيمة ليست لحظية يمكن الحكم عليها بسهولة ما أن يتلاشى غبار المعارك، فنبدأ في فرز المنتصر عن المهزوم، فالحرب امتدادٌ للسياسة، وشكل من أشكالها، ويجب فهم نتائجها بصورة أوسع مما خسرته أطرافها من أفراد ومعدات وأراضٍ، ويختلط ذلك مع قبول نتائجها أو رفضها، ونشوء مراكز قوى جديدة، وحدوث تغيرات في البنى الداخلية لأطرافها، وفي ميزان القوى المحلي والإقليمي والدولي، ومدى تأثيره المباشر في ساحة الصراع.
ثمة جدل دائر حول ادعاء النصر أو الاتهام بالهزيمة في حرب الإبادة الجماعية المستمرّة منذ أكثر من عامين
ثمة جدل دائر حول ادعاء النصر أو الاتهام بالهزيمة في حرب الإبادة الجماعية المستمرّة منذ أكثر من عامين، هل قَتْل وجرح أكثر من ربع مليون غزّي، وتدمير 70% من بيوت غزة، وحصارها وتجويعها أهلها وتشريدهم، واحتلال 58% من أرضها، واجتياح بقيتها، يمكن اعتباره نصراً حققه الجيش الإسرائيلي؟ أم أن طول مدة الحرب للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، وعدم تحقيق أهداف الحرب المعلنة المتمثلة بالقضاء على المقاومة، ونزع سلاحها، وإعادة تشكيل خريطة الإقليم يمثّل فشلاً كبيراً في هذه الحرب.
لم يُهزم الفلسطينيون في غزّة في هذه الحرب التي صمدوا فيها، ولم تُهزم المقاومة التي قاتلت فيها قتالاً أسطوريّاً لم يسبق له مثيل، وما زالت تسيطر على مناطقها وتجدد قياداتها، وتجنّد مقاتليها، وتفرض الأمن، وتجلس على طاولة المفاوضات، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي طاولتها خلال الحرب الضروس. وبفضل طوفان الأقصى، تراجع التطبيع مع الكيان الصهيوني، وعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث، بعد أن كانت على حافة التصفية. أما حرب الإبادة، وما رافقها من قتل وتدمير وتجويع، فالجيش الإسرائيلي هو المسؤول الوحيد عنها، ومن يقول بغير ذلك يعفي العدو من المحاسبة على جرائمه، ويروج لروايته.
لم تُهزم المقاومة، فالمقاومة، في تجارب الشعوب كلها، لا تُهزم إلا عندما يُقضى على فكرتها، أو تُخمَد جذوتها وتستسلم
لم تُهزم المقاومة، فالمقاومة، في تجارب الشعوب كلها، لا تُهزم إلا عندما يُقضى على فكرتها، أو تُخمَد جذوتها وتستسلم، قد تتراجع قليلاً، وقد تُغيّر وسائلها وأدواتها، وقد تنتقل الراية من يد إلى أخرى. وفي الوقت نفسه، يصعب القول بانتصارها أيضاً؛ يمكن ملء مجلدات عن صمودها وقتالها الأسطوري، وعن إعدادٍ لم يكلّ ولم يملّ للمعركة استمرّ سنوات، وعن مفاجأتها العدو، وأكثر من ذلك، لكن لا يمكن للانتصار أن يترافق مع مشروع ترامب، ولا مع تقسيم غزّة، أو إخضاعها لوصاية وانتداب، وإرسال قوات دولية لفرض الأمن فيها، مع الحديث عن نزع السلاح وتدمير الأنفاق، واستمرار فصل الضفة الغربية عن قطاع غزّة، والعجز عن الإفراج عن قيادات الأسرى ورموزهم، واسترداد جثامين الشهداء الفلسطينيين كلها.
ثمّة مثال أظن أنه يشكل هاجساً في مخيال بنيامين نتنياهو، وهو وضع بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومصير زعيمها في الحرب ورئيس وزرائها ونستون تشرشل الذي لم يتمكّن من قراءة ما أفرزته الحرب من قوى دولية صاعدة، ومتغيرات في الوضع العالمي، فكان أن فشل في الحفاظ على منصبه، وتراجع نفوذ الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عندما خاطب نتنياهو بقوله “قد تكسب المعركة لكنك تخسر العالم”، في إشارة إلى حجم التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة، وإلى ما يمكن أن تحقّقه سياسات نتنياهو وحروبه من ردّات فعل عربية وإقليمية ودولية في المستقبل.
على الرغم من قسوة الحرب وضراوتها، إلا أنها تفتح باب الأمل أمام الشعب الفلسطيني، إذا استوعب نتائجها، وعزّز صموده ووحدته، وتمسّك بعدالة قضيته، وبحقه في مقاومة الاحتلال بالأشكال الممكنة، وإذا تمكن من تصعيد النضال ضد الاحتلال والأبارتهايد والتمييز العنصري، وعزل إسرائيل في العالم كله، وإيقاف مصادر دعمها، لتصبح كلها حلقات مركزية لنضاله، تقف جنباً إلى جنب مع تعزيز صموده ونضاله في الأرض المحتلة، فإن ساعات الخلاص والتحرّر تصبح أقرب من أي وقت مضى.
المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى