
لم تتوحد سورية عبر التاريخ سوى لفترات محدودة واستثنائية، ففيها نشأت الدولة – المدينة قبل اليونان , وأهمها ايبلا شمال سورية واستمرت تلك الدولة – المدينة منذ 3000 عام قبل الميلاد وحتى 1400 قبل الميلاد, بعد ذلك لدينا الممالك الآرامية التي نشأت بين 1200 ق.م وحتى 700 ق.م وبلغ عددها أكثرمن عشرين مملكة تحالفت عسكريا ضد آشور عام 853 ق.م أهمها مملكتا دمشق الآرامية و حماة الآرامية وكلها ممالك تتمثل في مدينة ومساحة محدودة تابعة لها .
أما الممالك الكنعانية التي نشأت منذ 3000 ق.م على طول الشريط الساحلي لبلاد الشام فقد اتصفت بذات الصفة من كونها دول- مدينية أهمها صيدا وصور وأوغاريت , ومما يلفت الانتباه أن الكنعانيين الذين سموا بالفينيقيين على يد اليونان بعد أن استولوا على حركة الملاحة في البحر المتوسط أنشؤوا امبراطورية في شمال أفريقيا عاصمتها قرطاجة ( في تونس الحالية ) نافست الامبراطورية الرومانية بينما لم ينشأ في سورية موطنهم الأصلي مايشبه الامبراطورية القرطاجية .
وفي الحقب التاريخية اللاحقة خضعت سورية للامبراطوريات والدول المصرية والآشورية والبابلية والفارسية والمقدونية ( الاسكندر الأكبر ) والسلوقية والرومان ثم البيزنطيين حتى فتحها العرب المسلمون عام 636 م. ولم تمنع الهيمنة الأجنبية وجود الدويلات الكنعانية في العموم لكنها خفضت من استقلالها السياسي وأضعفت إلى حد كبير أي احتمال لوحدتها في دولة كبرى .
ثمة استثناءات في حالات دول سورية تمردت كما في تدمر ووجود شبه الدول المستقلة استقلالا ذاتيا كما في مملكة الغساسنة لكن تلك الاستثناءات كانت نادرة ومحدودة في الزمان والمكان .
توحدت سورية وتحولت إلى دولة امبراطورية زمن الأمويين لكن ذلك لم يدم سوى 89 عاما بعدها خضعت للدولة العباسية التي تمركزت في العراق .
وحين ضعفت الدولة العباسية بدأت الدويلات السورية بالظهور على مسرح التاريخ مثل الحمدانيين والفاطميين والدويلات المحلية التابعة للسلاجقة ثم جاء الصليبيون فأنشؤوا عدة دويلات في ساحل سورية منها انطاكية وطرابلس والقدس , ونشأت الدولة الزنكية في حلب والموصل ثم توسعت إلى دمشق .
وبعد ذلك لدينا اسثناء تاريخي آخر حين توحدت مع مصر على يد صلاح الدين الأيوبي , لكنها سرعان ما انقسمت إلى ممالك وسلطنات حكمت ككيانات شبه مستقلة تحت السيادة الأيوبية العامة، خاصة بعد ضعف السلطة المركزية في مصروعادت للانقسام تحت حكم المماليك , إلى أن خضعت للدولة العثمانية اعتبارا من العام 1516 .
في الاستعراض الطويل السابق يبدو واضحا ميل سوري للانقسام السياسي , لكن ذلك الميل يخفي وراءه تشكل هوية ثقافية – لغوية مشتركة قاومت عوامل الانقسام كما قاومت عوامل الالحاق بفعل السيطرة السياسية للدول الأجنبية .
ومنذ الآراميين على أقل تقدير يمكن مشاهدة هوية حضارية ثقافية تقاوم الهيمنة السياسية الأجنبية , فاللغة الآرامية انتصرت بعد هزيمة الدول الآرامية على يد آشور , وبدلا من أن تختفي فقد سادت عبر مئات السنين حتى أصبحت اللغة الرسمية السائدة في عصور متأخرة كما في عصر قورش الفارسي منتصف القرن السادس قبل الميلاد حيث كانت تستخدم كلغة مراسلة بين فارس ومصر .
تعكس سيادة اللغة الآرامية المضمون الثقافي الحضاري لسورية على وجه خاص , ويمكن أيضا ملاحظة كيف احتفظت سورية بهويتها الحضارية واللغوية منذ الحكم المقدوني الذي بدأ بعد سيطرة الاسكندر المقدوني على سورية على إثر معركة ايسوس عام 333 قبل الميلاد وخلال العصور اللاحقة الطويلة من سيطرة السلوقيين ثم الرومان ثم البيزنطيين .
وفي حين مرت مناطق أخرى مثل شبه الجزيرة الايبرية ( اسبانيا القديمة ) بعملية ( رومنة ) تحت الحكم الروماني أدت لتبدل الهوية الثقافية اللغوية للمنطقة فقد استطاعت سورية الاحتفاظ بهويتها الثقافية – اللغوية إلى حد كبير عبر كياناتها التي كانت تميل نحو هيئة المدينة – الدولة أو شبه الدولة تحت الهيمنة الأجنبية .
لم يغير الفتح العربي الاسلامي هذا الميل التاريخي السوري للوحدة مع الانقسام لكنه عمقه في الحقيقة , فاللغة العربية هي الأخت الكبرى للغة الآرامية والسريان السوريون لعبوا دورا هاما في هيكلة الدولة الأموية وفي نقل التراث الانساني اليوناني بالأخص إلى الحضارة العربية الاسلامية , ولأول مرة تفاعل السوريون السريان مع اللغة العربية كما لم يفعلوا ذلك مع أي سلطة خارجية , ويعود ذلك لأسباب متعددة لامجال هنا للتوقف عندها كانتشار الاسلام كدين , وكوجود العرب في سورية قبل الفتح العربي – الاسلامي ووجود الممالك الغسانية جنوب سورية …الخ .
فالاستبدال هنا لم يكن يعني شطب الهوية السورية اللغوية – الثقافية لكنه كان يعني تغلب اللغة العربية الأخت على أختها الآرامية – السريانية بينما احتفظ السوريون بالمضمون الحضاري الثقافي لتلك اللغة بل إن ذلك المضمون قد تعزز بتحوله إلى حضارة عربية – اسلامية متفوقة في سورية كما في الاندلس التي أصبحت أموية بعد أن وحدها عبد الرحمن الداخل عام 755 للميلاد .
خلال كل العهود الاسلامية لم تكن سورية بحاجة للكفاح لتأكيد هويتها الثقافية الحضارية فقد أصبحت تلك الثقافة هي وعاء الحضارة العربية الاسلامية وموطنها الأصلي .
منذ سيطرة العثمانيين على بلاد الشام نقل العرب السوريون الثقافة الاسلامية لاستانبول وعلى هدي تلك الثقافة سار العثمانيون , فلم تشعر سورية بأي تحد لهويتها اللغوية الثقافية حتى مطلع القرن العشرين مع حكومة الاتحاد والترقي القومية التركية .
الهوية الثقافية – اللغوية السورية كانت تضم المسيحيين واليهود السوريين والفرق الاسلامية المختلفة في سورية وكان أي زائر أجنبي لسورية بإمكانه ملاحظة ذلك مع الفوارق الدينية والمذهبية والعرقية التي لم تكن توجد خارج تلك الهوية المشتركة .
وعندما خرجت سورية من عباءة الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى لم تكن حرة في اختيار مستقبلها السياسي بل خضعت لارادة الدول الكبرى المنتصرة في الحرب كجزء من غنيمة الحرب .
فكرت فرنسا في استمالة المارونيين في جبل لبنان وتشجيعهم لانشاء كيان سياسي يكون موطىء قدم للوجود السياسي والعسكري والثقافي لفرنسا في سورية بعد أن استثمرت في اجتذابهم الكثيرمن الجهود والأموال منذ القرن التاسع عشر عن طريق بناء المدارس والكليات والمستشفيات والبعثات وبعض المشاريع الاقتصادية كتوسيع وتطوير ميناء بيروت. لكن جهودها لم تلاق الاستجاابة سوى لدى المسيحيين المارونيين وكان عليها الانتظار حتى احتلال لبنان وسورية تحت مسمى الانتداب عام 1920 ومن خلال سلطة الانتداب تم فصل جبل لبنان مع طرابلس وبيروت واربع أقضية سورية وتشكيل ماسمي بلبنان الكبير .
حاولت فرنسا تطبيق النموذج اللبناني المعدل على بقية سورية , لكن محاولتها لم تنجح , وفي الحقيقة فقد كانت فرنسا متشككة في نجاح تجربة تقسيم سورية وذكر غورو صراحة أن تقسيم سورية المعلن لأربع دول ( دولة دمشق ودولة حلب ودولة جبل العلويين ودولة جبل الدروز ) ليس نهاية المطاف بل مجرد مرحلة يمكن بعدها الانتقال إلى إعادة توحيد سورية بصورة كلية أو جزئية حسب نتائج تلك التجربة .
ويمكن لمس تلك الرؤية السياسية الفرنسية في إعادة توحيد ثلاث دول سورية هي دولة دمشق ودولة حلب ودولة جبل العلويين في اتحاد فدرالي عام 1922 تحت الانتداب الفرنسي . لكن ذلك الاتحاد لم يثبت نجاحه بينما بقيت السويداء خارجه , وبقي الاقتصاد السوري بدون دمج حقيقي .
وعندما ضعفت قبضة فرنسا على مستعمراتها بعد الحرب العالمية الثانية عادت الروح الوطنية السورية المعبرة عن الهوية السورية للظهور بقوة بحيث لم يعد بإمكان فرنسا تجاهلها بفرض التقسيم بالقوة .
مع استقلال سورية عام 1946 نشأت الدولة السورية الحديثة التي ازدهرت فيها الوطنية السورية فوق كل عوامل الانقسام .
هكذا فمن يتأمل في عمق التاريخ السوري يجد عوامل الانقسام كانت حاضرة دائما في سورية, لكن عوامل الوحدة الثقافية – اللغوية الحضارية لم تكن حاضرة فقط ولكنها كانت عميقة الجذور إلى الحد الذي مكنها من الدفاع عن نفسها باستمرار ضد عوامل الانقسام السياسية .






