
في صباح الخامس من حزيران 2003، كان السياسي الألماني البارز يورغن مولمان يستعد لقفزة جديدة من ذلك النوع الذي قام بمئاتٍ مثلها. كان بارعاً، محترفاً، وصاحب سجل طويل في رياضة القفز المظلّي. لكن تلك القفزة بالتحديد تحوّلت إلى لحظة النهاية: مظلّته الرئيسية انفصلت، والاحتياطية لم تُفتح، وسقط نائب المستشار ووزير الاقتصاد وقبلها التربية الأسبق ميتاً في حقل قرب مدينة مونستر. التحقيقات أغلِقت لاحقاً بوصف الحادث “غير قابل للحسم”، لكن كثيرين تركوا الباب موارباً بين احتمال الانتحار واحتمال “التصفية بصمت” لرجلٍ أصبح عبئاً ثقيلاً على كثير من القوى داخل ألمانيا وخارجها، بعدما تجاوز كل الخطوط في نقده لإسرائيل وسياساتها.
مولمان لم يكن سياسياً عادياً بالنمط المعهود في الساحة الألمانية. وُلد عام 1945 في أواخر الحرب العالمية الثانية، ونشأ في بيئة ألمانية تقليدية تحمل إرث الهزيمة وعبء الماضي. درس العلوم التربوية، ثم انخرط مبكراً في الحزب الليبرالي الديمقراطي (FDP)، ليصبح لاحقاً واحداً من ألمع نجومه الصاعدين. تسلّم وزارة التعليم لفترة قصيرة، ثم عُيّن عام 1991 وزيراً للاقتصاد ونائباً للمستشار في حكومة هلموت كول، وهو موقع لا يصل إليه إلا سياسي يتمتع بثقة واتزان ونفوذ واسع.
لكن الرجل كان يحمل طباعاً مختلفة عن ذلك الهدوء البروتوكولي الذي يميز الطبقة السياسية الألمانية. مولمان كان حاداً، صريحاً، يتجاوز حساسية التاريخ الألماني بجرأة لا تُقبل عادة في الملفات المرتبطة بإسرائيل. كان مقتنعاً بأن ألمانيا يجب ألا تبقى أسيرة عقدة الذنب تجاه اليهود إلى درجة تمنعها من انتقاد الاحتلال. ولأنه كان يشغل في الوقت نفسه رئاسة “الجمعية الألمانية–العربية”، كان يتلقى باستمرار تقارير وشهادات عن وضع الفلسطينيين تحت الاحتلال، ما ولّد لديه موقفاً نقدياً آخذاً في التصاعد.
في بداية الألفية الجديدة، ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بدأ مولمان يرفع منسوب خطابه. انتقد حكومة أريئيل شارون بشدة، واعتبر ممارسات الجيش الإسرائيلي في الضفة وغزة “انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي”. لم يكتفِ بذلك، بل قال في أحد أبرز تصريحاته إن على الألمان “عدم الخلط بين معاداة السامية وانتقاد سياسة إسرائيل”، وهو قول كان كفيلاً بإشعال العاصفة ضده.
لكن الانفجار الحقيقي وقع في انتخابات البوندستاغ( البرلمان) عام 2002. مولمان موّل وأصدر منشوراً انتخابياً يهاجم فيه شارون من جهة، والسياسي الألماني اليهودي مايكل فريدمان من جهة أخرى. في ذلك المنشور اتهم فريدمان بأنه يبرر “سياسات قمعية” تمارسها حكومة إسرائيل ضد الفلسطينيين. الرسالة كانت واضحة، واللغة كانت حادّة لدرجة اعتبرتها الأوساط السياسية “تجاوزاً للخط الأحمر” في بلد تتحسس بشدة من أي جملة قد تُفسَّر بوصفها عداءً لليهود.
ما حدث بعدها كان انهياراً متسارعاً: الحزب تبرّأ منه، وسائل الإعلام صوّرته سياسياً ” flirt مع خطاب اللاسامية”، والنيابة العامة فتحت تحقيقاً حول تمويل المنشور. مولمان أصبح هدفاً للنقد الداخلي والخارجي، خصوصاً أن لوبيات داعمة لإسرائيل داخل ألمانيا اعتبرت خطابه تهديداً يجب كسره. الرجل أكّد مراراً أن نقده موجه إلى “حكومة شارون” وليس إلى اليهود كجماعة، لكن ذلك لم يشفع له. في نهاية العام 2002، أُبعد من قيادة الحزب في ولاية شمال الراين–وستفاليا، ثم استقال من كل مناصبه.
هنا تحديداً بدأت الظلال تحوم حول حياته. التحقيقات المالية كانت تتقدم، علاقته بالحزب انقطعت، وسمعته السياسية تحطمت. ومع ذلك، كان مولمان يظهر في مقابلاته الأخيرة بنبرة متحدّية، مؤكداً أنه سيدافع عن حق الألمان في انتقاد إسرائيل دون تهمة جاهزة تُدعى “اللاسامية”.
بعد أشهر قليلة، جاء يوم الخامس من حزيران 2003. الرجل الذي نفّذ أكثر من ألف قفزة مظلية، ودرس أدق تفاصيل السلامة الجوية، يسقط سقوطاً حراً بعد فشل مزدوج في المظلّتين. تقرير الطب الشرعي لم يجد دليلاً على جريمة، كما لم يجزم بالانتحار. إنما بقي السؤال الأكبر معلّقاً: كيف يمكن لخبير محترف أن يخرج من الطائرة بمظلّتين معطوبتين في آن واحد؟
البعض يرى في الحادث “صدفة مأساوية”، فيما يرى آخرون أنّه كان التخلص من سياسي أصبح أكبر من أن يُحتوى، وأكثر خطورة من أن يُترك، بعدما فتح ملفاً محرّماً في السياسة الألمانية لغاية اليوم: نقد إسرائيل بلا قيود. ومع موت مولمان، انتهت واحدة من أكثر القصص إثارةً للجدل في تاريخ السياسة الألمانية بعد الحرب، قصة رجل تحدّى السائد… ودفع ثمناً لم يُعرف إلى اليوم إن كان قدراً أم كان ترتيباً بالغ الدقة .
فهذا قدر الأحرار الذين يقفون مع الحق في الزمن الذي فقد فيه الكثيرون بوصلتهم ، لروح مولمان السلام هو وكل الأحرار الذين رحلوا وكانت فلسطين قد سكنت في روحهم لعدالة قضيتها .


