
يمتاز اللبنانيون عن بقية شعوب المنطقة، باختلافهم فيما بينهم في كل شيء، وعلى كل شيء، وحتى في مسميات الأشياء. فشريحة لا بأس بها تطلق على فترة حكم الفرنسيين انتدابا، وشريحة أخرى تطلق عليها استعمارا. مع أن الواقع يقول: إن فرنسا وبريطانيا اللتين انتدبتا نفسيهما أوصياء علينا، بدون إذن منا، من أجل مصالحهما الاستعمارية، وأن وجودهما على أراضينا كان احتلالا واستعمارا لا يشكك فيه عاقل..
وساسة كلا الفريقين من اللبنانيين، يصطفون بالدور على أبواب الدول الكبرى والصغرى وسفاراتها، حاملين الوطن في حقائبهم، باحثين عن ولاءات، وغطاء سياسي، والدعم المادي لطوائفهم ومذاهبهم، الذي يذهب إلى جيوبهم مرورا ببعض الجمعيات الخيرية، التي أنشأوها خصيصا لهذا الغرض. فغدوا ساسة يبيعون ويشترون في كل شيء، وما الوطن بالنسبة لأغلبهم إلا سلعة، وخطبهم العصماء حول حب الوطن واستقلاله، ما هي إلا مزايدات سياسية.
يحتفل اللبنانيون باستقلال وطنهم هذه الأيام، وعين على جنوبه الذي أصبح مستباحا، وتحت سيطرة الكيان الصهيوني، شئنا أم أبينا، إن لم يكن كل لبنان. والعين الأخرى تتطلع إلى الجارة سوريا، التي تنهض من مأساتها ململمة جراحها، محاولة بكل السبل تحاشي الصدام مع الكيان، الذي بفضل الضوء الأمريكي الأخضر، وما يؤمنه الرئيس ترامب له من حماية، تفتحت شهيته أكثر، وأصبح ولأول مرة منذ نكبة عام 1948، يتحدث بعنجهية وغطرسة عن إعادة ترتيب أوراق منطقة الشرق الأوسط، وإخضاعها لإرادته وهيمنته، ووفقا لمصالحه ورغباته، على الرغم من خروجه من معركة غزة إن لم نقل مهزوما، ولكن بلا أدنى شك مُهشّما حتى الثمالة، فاقدا سمعته ومكانته السياسية الدولية والاقتصادية والعسكرية، بالإضافة إلى كل ما كان يتمتع به من رعاية ودلال قبل طوفان الأقصى من أوروبا ودول أخرى. يحتفلون باستقلال وطنهم، وفئة كبيرة يراودها حلم بعودة لبنان إلى الوقوف على رجليه، بعد سقوط النظام السوري، الذي كان يتحكم في مفاصل الدولة اللبنانية على مدار عقود، فأنهك لبنان وسوريا في آن معا، ومن كل النواحي، خصوصا مع وجود رئيس لبناني جديد على كرسي الرئاسة، يتمتع باحترام معظم اللبنانيين، ورئيس وزراء قادم من خارج الصندوق، أثبت مقدرته على الساحة القانونية الدولية، ما يدفع اللبنانيين للحلم باستعادة مرحلة الستينيات، فترة الحكم الشهابي، التي ساد فيها القانون، وعمَّ الأمن والأمان والازدهار الاقتصادي، فكان لبنان لؤلؤة المتوسط ودرته. إنهم يبحثون اليوم عن وطنهم المفقود، الذي عرفوه في الستينيات، ولكن من دون جهاز مخابراته «المكتب الثاني»، مع العلم أن لبنان بتركيبته الاجتماعية والطائفية وفسيفسائها، وطبيعة عقلية أبنائه، التي تعتبر الفوضى مكسبا، لا يمكن حكمه إلا بنظام أمني قوي، يواكبه جهاز قضاء فعَّال، غير منحاز، وأن النظام السوري ما كان له ليسيطر على لبنان بالشكل الذي كان عليه، لو أن أجهزة لبنان الأمنية بقيت على حالها، ولم يفككوها، ويقدموا بذلك لبنان لقمة سائغة للجار السوري، وأنه كان بالإمكان تنظيفها في حينه، وإعادة تركيبها وهيكلتها عوض حلها.. مع العلم أنه بسبب الفوضى الحاصلة منذ مدة، والتركيبة العجائبية للبنان، وتفلت السلاح، والتمترس الطائفي المذهبي، ظهرت طبقة جديدة من مراكز القوى داخل أجهزة الدولة الأمنية المختلفة، وفي أروقة كل الدوائر والوزارات، وهي أسوأ من المكتب الثاني، إذ تمارس نوعا من الزبائنية والسلطة داخل السلطة، مستبيحة كل القوانين، وإنسانية المواطنين، على طريقة أجهزة النظام السوري البائد، وغدا بعضهم شركاء في أرزاق المواطنين، يفرضون على من شاءوا عمولات، يسميها اللبنانيون «إكرامية»، ما جعل كثيرين يترحمون على أيام المكتب الثاني وأخواته..
لقد بات جميع اللبنانيين مقتنعين، بأن الوطن لا يمكن له أن يتابع مسيرته بهذه العقلية، والأساليب الفوضوية، وحتى ساسته المستفيدون من كل ذلك، وناهبو خيراته، يقرون بأنه لا بد من إيجاد حلول ناجعة، ووضع حد لكل هذا العبث، وأنه لا بد من البداية في مكان ما، للوصول إلى الإصلاح الشامل، ويرى كثير من اللبنانيين أن خطاب القسم لرئيس الجمهورية، وطروحات الدكتور نواف سلام في كتابه «الإصلاح الممكن والإصلاح المنشود»، وكتابه الآخر حول اتفاق الطائف وسلبياته، هي أمور تشكل في مجموعها خريطة طريق من أجل تثبيت دعائم الدولة وهيبتها، والانتقال من حالة الفوضى اللاخلاقة، التي يغوص فيها الوطن ومواطنوه منذ عقود، إلى الدخول في مرحلة جديدة، تكتب فيها سطور الجمهورية الثالثة. وتتأسس بالتالي دولة المواطنة والحداثة، لأنها الحل الوحيد الذي سينهي كل أنواع المحاصصات، وتسلط أمراء الطوائف، وساسة المذاهب، الذين يشبهون إلى حد بعيدا قبضايات الشوارع، بل عصابات قطاع الطرق…
وحتى لا نظلم ساسة لبنان الأشاوس، باتهامهم بأنهم سبب كل علة وداء في لبنان الوطن، فهناك بلا شك تلازم بين الساسة والشعب، وكل طرف يرى في الآخر ضامنا له ولوجوده، وحاميا لمصالحه، لأن كل طائفة تعيش في حالة خوف مُصْطنعة ومفبركة من الطوائف الأخرى، في ظل حالة من الشحن الطائفي لا تتوقف، ما ينتج بشكل دائم الأشخاص أنفسهم، أو أشباههم، في حالة من الدور والتسلسل لا تنتهي، لتضيع الطاسة والمقاييس، ويتكرر السؤال البدائي، فيما لو كانت البيضة قبل الدجاجة أم العكس، وبالتالي: هل المشكلة اليوم في الساسة، أم هي في الشعب؟ وعلى الرغم من كل ما يقوم به الزعيم الطائفي والمذهبي من تصرفات وتجاوزات للقوانين، يبقى بالنسبة لكثيرين، هو «المخلّص»، والحامي، وأنه كلما أغدق في طائفيته ومذهبيته وشعبويته، وحتى في تطرفه، كان الأقوى داخل بيئته الحاضنة، في مواجهة المنافسين من الداخل والخارج، ويدفع بالتالي أتباعه إلى التمسك به أكثر! هذه المعادلة الجهنمية، القائمة على الترابط المقدس بين السياسي الطائفي المذهبي، والمواطن المطيع الخائف، لا يمكن فكفكتها والقضاء عليها، إلا من خلال سلطة قوية، تقوم بفرض القانون، وهيبة الدولة بالقوة، ما يولد لدى المواطن الشعور بوجود «الوجه الأبوي للدولة»، وحمايتها لمصالح المواطنين، كحماية الأب لمصالح كل أبنائه.
ويبقى أن نشير إلى أن الذين هم خارج هذه اللعبة الجهنمية، قلة قليلة، وشريحة محدودة، لا تأثير لها في المجتمع، ولا على سير الأحداث، وخير دليل، توزع أصوات الناخبين في السفارات اللبنانية في الخارج ونتائجها، التي من المفروض أن تكون معبرة عن توجهات جديدة، وأن هؤلاء الناخبين بمقدورهم الإدلاء بأصواتهم بحرية تامة، لكونهم في بلاد تمارس فيها الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، إلا أن التجربة أثبتت أن كثيرا من اللبنانيين خرجوا من الوطن، ولم تؤثر عليهم غربتهم إيجابا في هذا المضمار، وأنهم ما زالوا يحتفظون بالعقلية نفسها، ويمارسون وأبناؤهم ما يمارسه ذووهم وأبناء وطنهم في الداخل، بل ببشاعة أكثر أحيانا، ووسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، وما ينشرونه عليها، خير دليل على ما نقول. إن الإصلاح المنشود قد يكون في متناول اليد في هذه المرحلة بالذات، أكثر من أي وقت مضى، لأن منطقة الشرق الأوسط تمر بظروف استثنائية، أوجدها طوفان الأقصى، وأن الجار السوري الناهض من كبوته، بدأ ورشة إصلاح لنظامه، ويطرح تطبيق «دولة المواطنة»، التي شكلت حلما لكثير من اللبنانيين يوما، وكانوا أول من نادى بها في المنطقة، وأول من أسال الحبر في الكتابة عنها، وحول دورها في بناء المواطن والأوطان.
كاتب وباحث لبناني
المصدر: القدس العربي


