
أبدى الجانبان الصيني والروسي ملاحظات اعتراضية مهمة على قرار مجلس الأمن 2803، الذي تقدّمت به الولايات المتحدة ووضعت تعديلات عليه، إلى أن تمّت الموافقة على مشروع القرار الاثنين الماضي. وتنسجم ملاحظات بكين وموسكو مع امتناعهما عن التصويت على مشروع القرار. وقد تمحورت الملاحظات حول: تغييب الجانب الفلسطيني سياسياً من إدارة القطاع، وتجاهل القرارات الدولية ذات الصلة والمتعلّقة بإقامة الدولة الفلسطينية، وتغييب مرجعية مجلس الأمن والأمم المتحدة في تطبيق القرار والسهر على تنفيذه، وتجاهل ما يجري في الضفة الغربية المحتلة من تدمير مقوّمات الحياة هناك على أيدي المستوطنين وعناصر الشرطة الإسرائيلية، وتكريس الفصل في القرار بين قطاع غزّة والضفة. وفي ظروف أخرى غير هذه، كان يفترض بالجانبَيْن الفلسطيني والعربي إظهار هذه الملاحظات لتحصين القرار، ومنحه بُعداً سياسياً فعلياً، وليس مجرّد إضافةٍ لفظيةٍ غير ملزمةٍ، كالعبارة التي أُضيفت في آخر تعديل، وتُصوّر الجانب الفلسطيني، وليس الاحتلال، بأنه من يعيق إقامة الدولة الفلسطينية، وذلك لدى الإشارة إلى أنه “وبعد تنفيذ برنامج إصلاح السلطة الفلسطينية على نحوٍ أمين وتقدّم أعمال إعادة تطوير غزّة، قد تتوافر الشروط أخيراً لبلورة مسار موثوق نحو تقرير المصير وقيام دولة فلسطينية”.
وواقع الحال، أنّه سبق للصينيين والروس أن اعترضوا على مشروع القرار، ودفعوا من أجل الحدّ ممّا يشتمل عليه من إجحاف سياسي، ومع إعلان أطراف عربية وإسلامية القبول بالمشروع الأميركي، لم يتبقَّ أمام البلدَيْن سوى السماح للمشروع بالمرور، رغم ما ينطوي عليه من إجحاف، مقابل امتناعهما عن التصويت عليه، وهذا ما حدث، وهو ما يُسجَّل للبلدَيْن.
مع إعلان أطراف عربية وإسلامية القبول بالمشروع الأميركي، لم يتبقَّ أمام روسيا والصين سوى السماح للمشروع بالمرور
ولمن قد يتساءل عن جدوى الاعتراض على فحوى القرار بعد صدوره، لا بدّ من الإشارة إلى أن الاعتراض يصدر من دولتَيْن كبيرتَيْن، عضوين دائمَيْن في مجلس الأمن، إذ لم يكن اعتراضهما على وجهة القرار لوقف إطلاق النار والسعي إلى السلام في القطاع المدمّر، بل على ما اعترى القرار من نقص سياسي فادح. وبما أن الولايات المتحدة قد انفردت بوضع المشروع، كما فعلت بخطّة وقف إطلاق النار، فقد أدّى هذا الانفراد بحكومة نتنياهو إلى قراءة سياسية لخطّة العشرين بنداً، وللقرار الأممي، تفيد بأنّه يحق لجيش الاحتلال أن يخرق وقف إطلاق النار، وتحقّ له عرقلة دخول المساعدات استناداً إلى العلاقات الوثيقة مع واشنطن. ولم يتوانَ جيش الاحتلال، وبعد يومين على صدور القرار، عن ارتكاب مجزرة ذهب ضحيتها 28 مدنياً في القطاع بينهم 17 طفلاً، فتجاوز مجموع من سقطوا من المدنيين منذ إعلان وقف إطلاق النار 300 ضحية.
يلحظ القرار دوراً للأمم المتحدة في توزيع المساعدات، لكنّه لا يمنح المنظّمة الدولية فرصةَ الإشراف على وقف إطلاق النار وحفظ السلام، ما يسهّل على نتنياهو ووزيره إسرائيل كاتس مواصلةَ اللعبة الدموية. وخلال ذلك، لا يمنح المسار السياسي المبهم الذي يشتمل عليه القرار المقاومة هناك ثمناً سياسياً يُذكر لنزع الأسلحة، باستثناء وعود معلّقةٍ لا تلزم بشيء، وهذا فحوى الاعتراضات الصينية والروسية. إذ إن نجاح عملية “جراحية” صعبة، مثل نزع الأسلحة، يتطلّب مقابلاً كافياً، يطمئنُّ معه الرازحون تحت الاحتلال في القطاع وفي الضفة الغربية إلى أن الطريق إلى الحرية والاستقلال قد شُقَّ، غير أن القرار صيغ، في جُملته، بطريقة ترضي (وتطمئن) الطرف القائم بالاحتلال وبالإبادة، قبل أيّ طرف آخر.
احترام حقّ أهل غزّة في أن يديروا أرضهم بأنفسهم الشرط الأول لأيّ سلام متوازن
وفي القناعة أن الأطراف الضامنة (مصر وقطر وتركيا) يسعها الإفادة من الملاحظات الصينية والروسية، من أجل الدفع نحو تطبيق آمن للقرار الأممي الصادر أخيراً، وبالضغط نحو تمكين الجانب الفلسطيني في أقصر الآجال من إدارة القطاع، طرفاً سياسياً صاحب ولاية على الأرض، وليس مجرّد طرف إداري أو مفوّضية للشرطة، ونسج علاقة صحّية وتكاملية مع “قوة الاستقرار”، وهو مُسمّى القوات العربية والإسلامية المرشّحة للانتشار هناك، فالقطاع مُلكٌ لأبنائه أولاً وأخيراً، وقد أقرّ الرئيس دونالد ترامب بحقّ الغزّيين في البقاء في أرضهم، بل وفتح الباب لمن يشاء بالعودة، وهذا يستتبع احترام حقّهم بأن يديروا أرضهم بأنفسهم بدعم إقليمي ودولي في مقدّمه الولايات المتحدة، ولا تُستبعد الصين وروسيا وبقية دول مجلس الأمن الدائمة وغير الدائمة، إضافة إلى الدول العربية والإسلامية المعنية، إذا أريد حقّاً أن تكون هناك رعاية دولية وإقليمية فعلية لإحلال السلام في القطاع المنكوب، وبطريقة متوازنة تراعي القانونَ والشرعيةَ الدوليين.
لممّا يثير السخط والاستغراب أن يبقى البؤس الشديد مُخيّماً على القطاع بعد نحو ستّة أسابيع على إعلان خطّة ترامب ذات العشرين بنداً. والخشية قائمة من أن يستمرّ البؤس على حاله بعد صدور القرار 2803، وإلى أن تتشكّل (وتنتشر) قوة الاستقرار العتيدة ومعها الشرطة الفلسطينية “الجديدة” بحلول مطلع العام المقبل، فذلك يعني السماح بسقوط عشرات الضحايا الجدد (لا سمح الله!) بفعل التوحّش الإسرائيلي، أو نتيجة الجوع، أو تفشّي الأمراض وانعدام الغوث الطبّي، أو ببساطة بفعل البرد القارس. وهو ما يقتضي العمل بروح إيجابية بنّاءةً، وبديناميةٍ تسرّع في الاستجابة للأزمات المُركَّبة، وليس كما هو جارٍ، بروح إرضاء الطرف القائم بالاحتلال، وتمكينه عملياً من اقتراف مزيد من الجرائم ضدّ الإنسانية.
الاعتراضات الصينية والروسية هي بمنزلة استدراكات وتصويبات، قابلة للأخذ بها أو على الأقلّ الاسترشاد بها، من أجل تطبيق سليم للقرار الأممي، بما يمنح تعويضاً أولياً وواجباً لأبناء القطاع ينعمون خلاله بالأمن والكرامة وتلبية احتياجاتهم الأساسية، على أن تُعمّم التجربة بالتوازي على الضفة الغربية المحتلّة.
المصدر: العربي الجديد






