الحكم الذاتي في الصحراء واتحاد المغرب العربي

كمال عبد اللطيف

يتضمّن قرار مجلس الأمن 2797، الصادر نهاية الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) في موضوع الصحراء، دعوة كل من المغرب وممثلي سكان الأقاليم المتنازع عليها، سواء منهم ساكنة مخيمات منطقة تندوف في غرب الجزائر وشرق المغرب، أو من تبقّى منهم في الصحراء، إلى الدخول في مفاوضات مباشرة، انطلاقاً من المعطيات التي سَتَرِدُ في مقترح الحكم الذاتي المغربي. ويُستشف من هذا الخيار أنه يمكن في حال حصول توافق وتراضٍ بين طرفيه، بوقف مختلف أشكال الاحتقان، التي حوّلت المغرب والجزائر من بلدين جارين، إلى خصمين ما يزيد عن نصف قرن، الأمر الذي ساهم في تعطيل مشروع اتحاد المغرب العربي، الذي أنشئ بين دول الاتحاد سنة 1989، ولم يتمكّن أحدٌ من تفعيل مؤسّساته بسبب النتائج التي ترتبت عن الصراع المذكور.
يبدو أن قرار مجلس الأمن يتجه إلى تجاوز مشروع تقرير المصير، المشروع الذي ارتبط بتاريخ النزاع منذ بدايته في سبعينيات القرن الماضي، وقد وضع القرار خيار الحكم الذاتي باعتباره يستوعب، في بعض أوجهه، مبدأ تقرير المصير، نظراً إلى الصعوبات الاجتماعية والتقنية المرتبطة بتطبيق هذا المشروع، وبحكم وضع الأقاليم الصحراوية اليوم، بعد خمسين سنة من المسيرة الخضراء (1975)، والوضع الخاص لمجموعة من سكان الصحراء في مخيمات تندوف.
يمثل قرار الحكم الذاتي خطوة جديدة في نمط مقاربته لموضوع النزاع، فالقرارات السابقة للمجلس ظلّت تحرص على استخدام مفردات محدّدة، وهي تقترب من قضية تصفية بقايا الاستعمار الإسباني في المغرب، وظلّت قراراتها تدعو إلى نوع من التوافق السياسي بين أطراف النزاع، من أجل حل عادل. أما القرار الصادر أخيراً، فقد انتقل من المفردات المفتوحة والعامة، إلى تحديد مرجعية محددة في الموضوع، يتعلق الأمر بالتفاوض حول مبدأ الحكم الذاتي. ويَنْتَظِر مجلس الأمن من الطرف المغربي صاحب المقترح، المشروع التفصيلي لِمُقْتَرَحِه، من أجل الحوار والتفاوض حول المبادئ والآليات التي ترسم دلالات وأبعاد هذا الحكم.
لم يعد معقولاً ولا مقبولاً، ونحن نشاهد ما يجري في العالم أن تواصل أطراف النزاع التعامل مع قضايا السياسة والتاريخ بالطرق التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه وعليه اليوم
ترتّبت عن صدور القرار جملة من ردات الفعل المتباينة، بين مختلف أطرافه، وهذا الأمر يفتح الأزمة القائمة على أفق جديد في علاقات المغرب بالجزائر، وعلاقة سكان المخيمات بأهلهم في الأقاليم الصحراوية، ويضع القضية اليوم أمام خيار واضح، بهدف إغلاق موضوع نِزاعٍ عَطَّل مسارات التاريخ والتنمية في البلدين الجارين، كما عطّل مسار اتحاد المغرب العربي أزيد من ثلاثة عقود. ويشعر المتابع لمعطيات القرار أن تحولاً معيناً حصل في القرار أخيراً، وإذا كان من الواضح أن فهم روح القرار يرتبط بمواقف الأطراف التي تبنّته وصوّتت عليه في مجلس الأمن، فمؤكّد أيضاً أن موقف كل من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية ساهم في ترجيح مبدأ الحكم الذاتي ووصفه بالواقعية. ويمكن الإشارة هنا إلى أن أطراف النزاع لم تكشف كثيراً عن المعطيات ذات الصلة بالقرار الجديد. ونفترض أن المفاوضات المنتظرة يمكن أن تساعد في عمليات الاقتراب من القرار، ومن المتغيرات التي سمحت بحصوله، والمتغيرات المرتقبة منه.
يتطلّب مشروع الحكم الذاتي كثيراً من الضبط والترتيب، المرتبطين بتاريخ هذه الأقاليم وحاضرها، ونفترض أن مواجهته تكون أكثر مردودية عند ربطه بمشروع تفعيل اتحاد المغرب العربي، فالمبادرة التي يستوعبها القرار تنتصر في روحها العامة للاتحاد، وتشكّل مناسبة لبناء مشروع في التكامل والتضامن والتنمية بين مختلف بلدان المغرب العربي وأقاليمه. ويمكن أن يُقْرَأَ اعتماداً على مبدأ ربطه بأسئلة الراهن الإقليمي والعربي والعالمي، بحكم أنه يُدَعّم مشروع التنمية المشتركة بدل الانقسام الإقليمي، إنه يُكَرّس مقترح الحكم الذاتي قصد المساهمة في دمج أقاليم بلدان المغرب العربي بعضها في بعض، بكل ما يحمله من معطيات تدفع إلى التفكير مجدّداً في الديمقراطية، وإعادة النظر في مفهوم الجهوية المُوَسَّعة، وإدخال بعض التعديلات على دستور 2011. ولا شك أن مُخطّط الحكم الذاتي سيحوّل الجمود المشحون بالمواجهات بين بلدان الاتحاد، ويضعها أمام أفق جديد من التضامن والتشارك.
ننظر إلى مشروع تطوير إصلاح الأفق الديمقراطي في الأقطار المغاربية باعتباره الضامن لشروط التعاون والتضامن في إقليم المغرب العربي الكبير
تسمح الظرفية العامة التي صدر فيها القرار للأطراف المعنية بالحوار أن تعمل على مواجهة المشكل بأساليب جديدة في التدبير السياسي، المرتبط بواقع التحولات الجارية في العالم اليوم، فلم يعد معقولاً ولا مقبولاً، ونحن نشاهد ما يجري في العالم أن تواصل أطراف النزاع التعامل مع قضايا السياسة والتاريخ بالطرق التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه وعليه اليوم. فقد ارتبط سياق تشكل المأزق في منتصف سبعينيات القرن الماضي بجملة من المعطيات السياسية المُحَدِّدَة إذ ذاك لنمط العلاقات الدولية. وقد حصلت بعد ذلك تطورات عديدة في المجال الإقليمي العربي، كما حصلت تحولات دولية فاصلة في المجال المتوسّطي وفي العلاقات الدولية على وجه العموم. لم يعد المشكل يطرح بالصيغ التي كان يطرح بها في لحظات تشكله الأول. وساهمت خمسة عقود من تاريخ تطوره في صناعة وضع جديد، لا يمكن الاستهانة بآثاره في المآل الراهن للوضع في المغرب وفي الجزائر وفي الأقاليم الصحراوية، وكذا في مشروع اتحاد المغرب العربي المُعَطَّل.
نفترض أن هناك أمران اثنان يساعدان في عملية التفكير في مقترح الحكم الذاتي، يتعلق أولهما بضرورة إدراك أن زمن سياق تشكل الأزمة لا علاقة بينه وبين مقتضيات الراهن، حيث ينبغي النظر إلى المأزق اليوم في ضوء المتغيرات الجارية في العالم. ولعل معاينة البؤر والمناطق المشتعلة في كثير من أنحاء العالم يسمح لنا بالتفكير في موضوع نزاع الصحراء بطريقة مختلفة، فلا ينبغي أن نظل سجناء ما صنعنا بأنفسنا، في زمن مختلف عن الشروط التاريخية والدولية الجديدة، المتحكمة في زمانية الراهن. إن مرور ما يقرب من ستة عقود على التصورات والمواقف والأزمات التي استفحلت، ومرور ما يزيد عن ثلاثة عقود على تعطيل مشروع الاتحاد، يدفع أطراف النزاع، في ضوء القرار الجديد، إلى ضرورة القيام بجهود سياسية استثنائية، لوضع حد لقضية استنزفت شعوباً وخيرات، وعَطَّلَت إمكانية تطوير مؤسسات وهيئات، وراكمت أحقاداً ساهمت في تركيب كثير من الأوهام. ولهذا السبب بالذات، ننظر إلى مسألة تفعيل مشروع الاتحاد، ومشروع تطوير إصلاح الأفق الديمقراطي في الأقطار المغاربية، باعتباره الضامن لشروط التعاون والتضامن في إقليم المغرب العربي الكبير.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى