
يكتب دوايت غارنر في مراجعة نقدية بسيطة (نيويورك تايمز في 2/4/2025) لرواية “الجسد Flesh” للمجري الإنكليزي ديفيد سزالاي، والحائزة على جائزة بوكر العالمية 2025، إنه لا يوجد في هذه الرواية شخصية تستحق التنويه أخلاقياً. ويضيف أن الأغنياء والفقراء يبدون فيها على حد سواء فارغين وفاسدين، ويعقب على هذا الكلام بخلاصة قاتمة (لكنها لا تعني انعدام التفاؤل)، بأننا نعيش في عالم يفتقر إلى أبطال أخلاقيين، افتقاراً بمثابة الألم الجسدي حسب تعبيره، ولو أمال صاحبنا نظره قليلا تجاه غزّة لرأى أبطالا من لحم ودم يجسدون ما غاب عن شخوص هذه الرواية.
على كل، تضيف الكاتبة كاترين بينهولد في محاورة نقدية لها مع غارنر حول الرواية نفسها (“نيويورك تايمز” في 13/11/2025)، أن اغتراب شخوصها لا ينبع من فقرهم المادي فحسب، إنما أيضاً هو فقر ثقافي طافح. وفي خلاصة بليغة لها هي الأخرى، تقول إن شباب اليوم إذا لم يكن يملك من المزايا سوى قبضتي يديه (باعتبارهما رمزاً للاستغراق في التقنية) سيصعب عليهم اكتشاف ما يهمّهم أو ما هي معاني الحياة، وتختم بقولها: “نحن نعيش في فترة فاصلة من تاريخ العالم، يستشعرها كل واحد منا، فترة تشير إلى حالة من عدم اليقين”.
هذه الخلاصة نفسها هي ما جعله توماس فريدمان عنوانا لمقالته “مرحبا بكم في عصرنا الجديد. ماذا يمكن أن نسميه؟” (نيويورك تايمز في 10/11/2025)، والتي يطفو عليها هي الأخرى قلق شديد، يريده فريدمان أن يكون دافعا إلى التفكير في السياسات العامة الأميركية مستقبلا. وكتب أيضا نيكولاس كريستوف مقالة هو الآخر عنوانها “صيغة أميركا للعظمة مهدّدة” (نيويورك تايمز في 15/11/2025)، مبديا فيها قلقه هو الآخر من واقع التعليم ومعيقات التجارة الحرّة (السياسات الحمائية والرسوم الجمركية) وسيادة القانون والتضييق على الهجرة.
قرننا الحالي مستغرق في القلق، مدمن عليه، بل يقوم اقتصاده العالمي على التغذي من آثاره
يعلم الجميع أن هذا الكلام ليس جديداً يطرق أسماعنا، فقرننا الحالي مستغرق في القلق، مدمن عليه، بل يقوم اقتصاده العالمي على التغذي من آثاره، ولذا لم يبالغ باحثون كثيرون حينما وصفوا حضارتنا المعولمة اليوم بحضارة القلق، دلالة على الحيرة والفراغ أو الاغتراب الآخذة بتلابيب الإنسانية. وإذا أضفنا جدل التكنولوجيات الحديثة، ونقاشات الذكاء الاصطناعي (هل هو فقاعة اقتصادية أم واقع اقتصادي جديد وواعد؟) وكيفيات توجيهه والاستفادة منه، وتوظيفه في التنمية، بالإضافة للتغيرات الجيوسياسية الجديدة، وصعود التوجهات اليمينية سياسيا، قد نعي بأننا بقدر ما نحن في حاجة لتغيير قواعد اللعب على مستوى جل الأصعدة، فإننا كذلك في حاجة لمراجعات مصيرية لقرارات اعتقدنا لوهلة أنها الأصلح للإنسانية بل اعتقدنا أنها “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” حسب عنوان مؤلف فرانسيس فوكوياما ذائع الصيت.
ما علاقة هذا الكلام كله بجائزة نوبل للاقتصاد، أو الاقتصاديين!، يبدو أن العلاقة أظهر من نكشف عنها، فثقل هذه الحقيقة (حالة عدم اليقين) كان الدافع -كما يبدو- لخبراء لجان جائزة نوبل للاقتصاد في اختياراتهم للأبحاث المستحقة للجائزة وذات الراهنية اليوم، فجائزة 2024 حصل عليها الثلاثي: دارون عاصم أوغلو وجيمس روبنس وسيمون جونسون الذين ركزت أبحاثهم حول إشكالية انعدام المساواة عالميا. أما جائزة 2025 والتي حصل عليها ثلاثي آخر: جويل موكير وفيليب أجيون وبيتر هاويت، فانصبت على دراسة العلاقة بين التقدم التكنولوجي والنمو الاقتصادي المستدام.
وإذا ما رجعنا إلى الثلاثة الأوائل، وبنوع من التفصيل، سنعي جيدا أن الدراسات الاقتصادية بدأت تكسر طوق الانغلاق على الاقتصادي الصرف، والانفتاح أكثر على العلوم الأخرى، سواء التاريخية أو الأنثروبولوجية أو النفسية والأخلاقية وغيرها، حيث يعلم المتخصصون أن دارون عاصم أوغلو وروبنس قد ركّزا في كتابهما المشترك “لماذا تفشل الأمم” الصادر سنة 2012 على أهمية المسألة الثقافية المركبة في فهم التطورات الاقتصادية وحركية الإبداع عند الشعوب، وصلة ذلك كله بالازدهار والنمو والسلطة. وفي أبحاثهم المستجدة يقلبون النظر مجددا حول دور الاستعمار في نمو اقتصادات معينة وانهيار أخرى، ولا يمكن الحديث عن الاستعمار هنا دون تناول المؤسسات الاقتصادية العالمية وأدوارها هي الأخرى في توجيه السياسات المحلية والعالمية (يمكنك الاطلاع على تقرير مختصر لجينا سيميالك على “نيويروك تايمز” 14/10/2024)، ولهذا فالجائزة التي منحت لهؤلاء تقر بنوع من الارتياح أن هذا النوع من الأبحاث بإمكانه أن يساعدنا على التخفيف من حدّة القلق تجاه مستقبل العالم، لأنها ستساعدنا بطريقة أو أخرى في فهم ما حصل تحديدا، وكيف حصل.
بعد أن كانت الحداثة في سعي إلى نزع السحر عن العالم، ها هي اليوم تحاول نزع القلق عنه
أما الثلاثة الآخرون فإن تركيزهم هو على مسألة تطور النمو في العصور الأخيرة مدفوعاً بتطور متواصل للابتكارات ذات الصلة بالتكنولوجيات الحديثة، والتي أسهمت، في نظرهم، في تجاوز حالات الركود التاريخية نحو تحولات تنموية متسارعة (يمكنك الاطلاع أيضا على تقرير مختصر لإيشي نيلسون 13/10/2025)، وهي فرضيات وخلاصات تحمل في طياتها هي الأخرى محاولة للإجابة عن قلق الإنسان المعاصر تجاه هذه التكنولوجيات، وكيفيات الدفع بها للإسهام التنموي الشامل، والذي لا يقتصر على المردودية الإنتاجية فحسب، وإنما يأخذ في الحسبان كل مناحي حياة الكائن على الأرص، بما فيها الأزمة البيئية الحالّة به اليوم.
وعليه، لم يبالغ الباحث فيليب أغيون (حسب تقرير جينا سيمياليك) عندما وصف الأسئلة الكثيرة التي تواجه مستقبل الإنسان بأنها بالفعل مثيرة، وستبقينا مشغولين فترات طويلة. وإذا أضفنا إلى هذا الكلام تحليل الخبير الاقتصادي داني رودريك (أوردته إيشي نيلسون) حول أبحاث الخبراء الثلاثة (نوبل للاقتصاد 2024) التي تبيّن الأهمية التي لا تزال الديمقراطية تحظى بها في التنمية، وتأثيرها المستمر في المدى الطويل على الأداء الاقتصادي، يتأكّد لدينا أن مصير مواجهتنا هذا القلق اليوم لا يمكنه أن يتحقق إلا بإقحام أشياء كثيرة، في مقدمتها الديمقراطية وسؤال تاريخ المؤسّسات والحضارات، وكذلك ثقافات الشعوب، من دون أن نغفل عنصراً مهماً يمكنه الإسهام بفاعلية في الرفع من اللبس الذي نستشعره تجاه المستقبل، وهو صلة الإنسان بالقيمة والأخلاق ، فبعد أن كانت الحداثة في سعي إلى نزع السحر عن العالم، ها هي اليوم تحاول نزع القلق عنه، غير أن ما تغير اليوم في المعادلة، أنها هذه المرّة ليست في كامل عنفوانها (بالأخص بعد الأزمة القيمية والأخلاقية العالمية التي عرّتها غزّة)، كما أن “سادة العالم الجدد” بعبارة جان زيغلر لم يعودوا متحكّمين وحدهم في مقاليد اللعب.
المصدر: العربي الجديد


