يثير تغيّر السياسة الأميركية وتقلبها حيال القضية السورية أسئلة عديدة بشأن أسباب ذلك وحيثياته، وعلاقته بأولويات الإدارات الأميركية المتعاقبة على البيت الأبيض، وكيفية تعاملها مع القضية، ومع القرارات الأممية التي صدرت بشأنها، حيث لم يكُن هدف الإدارة الأميركية تغيير نظام الأسد أو إسقاطه، وذلك على عكس ما ذهب إليه مبعوث وزارة الخارجية الأميركية الخاص بسورية، جويل ريبورن، حين زعم أن هدف الإدارة الحالي هو نظام بشار الأسد، وطالب في اجتماعه مع أعضاء من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية في 26 الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، في إسطنبول، بتوحيد إدارة الشمال السوري، الغربي والشرقي، من أجل تحقيق هذا الهدف وإلحاق الهزيمة بالأسد.
ومنذ قيام الثورة السورية في منتصف مارس/ آذار 2011، لم تتبع الولايات المتحدة استراتيجية واضحة حيال نظام الأسد، والوضع السوري بشكل عام، ولا نهجاً معيناً، بل ظل موقفها يتسم بعدم الاكتراث، ومحاولة إدارة الأزمة، خصوصا إبان فترة الرئيس السابق باراك أوباما الذي سلّم الملف السوري إلى روسيا، كي تتدخل بشكل عسكري سافر في سورية مع نهاية سبتمبر/ أيلول 2015. وتكرّر الأمر نفسه مع الرئيس دونالد ترامب، حيث تغيرت أولويات سياسة إدارته حيال القضية السورية مرّات عديدة، ووضعت الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مقدّمتها، وتحالفت في سبيلها مع قوى الأمر الواقع، ممثلة بوحدات حماية الشعب الكردية، ثم أعلنت هزيمة “داعش”، وراحت تركز على أنسحاب إيران والحدّ من نفوذها. وكعادته، قرّر الرئيس ترامب إنهاء مهمة قواته وسحبها أكثر من مرّة، لكن الأمر لم يتعدّ إعادة انتشارها والتركيز على منطقة الجزيرة السورية بنفطها وغازها الطبيعي.
والملاحظ أن التعامل الأميركي مع القضية السورية ارتهن، إلى حدّ كبير، بمواقف الرئيس الأميركي، سواء أكان أوباما أم ترامب، ولم تستند إدارة كلّ منهما إلى رؤى أو خطط استراتيجية. ونتج عن ذلك عدم وجود مسعى أميركي حقيقي لحل سياسي في سورية وفق قرارات الأمم المتحدة، على الرغم من تكرار المسؤولين الأميركيين مقولة استبعاد الحل العسكري الذي لجأ إليه الروس والإيرانيون ونظام الأسد، وراحت الإدارة الحالية تركز على مطالب، يطلقها بين الفينة والأخرى كل من وزير الخارجية مايك بومبيو والمبعوث الخاص إلى سورية جيمس جيفري، ومبعوث وزارة الخارجية الأميركية الخاص بسورية جويل ريبورن، وتتمحور حول الحل السياسي وانسحاب إيران ومليشياتها ووقف العمليات العسكرية في سورية. ولكن مع عدم وجود خريطة طريق أو خطّة واضحة لتحقيق هذه المطالب، وهو أمر جعل نظام الأسد وحلفاءه الروس والإيرانيين لا يقيمون أي اعتبار لمطالب الولايات المتحدة، لأنها ببساطة لم تفعل شيئاً من أجل تحقيقها.
قد يكون تعامل الإدارة الأميركية اختلف قليلاً مع الحفاظ على وجودها العسكري في منطقة شرقي الفرات وتعزيزه، إضافة إلى قانون قيصر (أو سيزر)، الذي جاء في وقت كان يحاول فيه نظام الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون تسويق انتصاراتهم العسكرية على فصائل المعارضة السورية، ومحاولاتهم استثمارها اقتصادياً، وترجمتها سياسياً، وبالتالي يُعتبر هذا القانون بمثابة العامل المثبط لتلك المحاولات على المستوى الاقتصادي، باستهدافه اقتصاد النظام ومرتكزاته وموارده المالية، من خلال استهداف الأفراد والكيانات والشبكات المرتبطة به، وطرق تمويله وإمداده بالأدوات والمعدّات التي يستخدمها في حربه ضد غالبية السوريين.
ويبدو أن الإدارة الأميركية أرادت من قانون قيصر نقل الصراع على سورية وفيها إلى المستوى الاقتصادي المدعوم قانونياً، بهدف تغيير سلوك النظام وتوجهاته وتحالفاته، معتقدةً أن قوة عقوباتها وضغوطها الاقتصادية التي ستطبقها على نظام الأسد وحلفائه وداعميه الدوليين والإقليميين، وفق هذا القانون، كافية لإفشال كل ما قاموا به من جهود عسكرية وسياسية، من أجل تثبيت نظام الأسد والاستفادة من عوائد إعادة إعمار سورية، ومنع استثمار ما حققوه عسكرياً على الأرض، وأنهم سيغيرون خططهم وتوجهاتهم، ويفكرون في البحث عن البديل لنظام الأسد، عبر الانخراط في تسويات سياسية. في المقابل، وضعت الإدارة الأميركية شروطاً لرفع العقوبات، تتلخص بوقف استخدام نظام الأسد وعناصره المجال الجوي السوري لاستهداف السكان المدنيين، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين والنازحين، والسماح لهم بالعودة طواعية وبكرامة، ومحاكمة مرتكبي جرائم الحرب. وهي شروطٌ لم يعرها النظام وداعموه أي اهتمام.
ومنذ توقيع الرئيس ترامب على قانون قيصر، تقود واشنطن حملة دبلوماسية من أجل الانخراط في محاولات البحث عن مخرج للقضية السورية، لكن ذلك كله ليس هدفه نظام الأسد وإلحاق الهزيمة به، بل جعله ينصاع وينخرط بالمسار السياسي. وبالتالي، جاءت زيارات جيمس جيفري وريبورن وسواهما إلى جنيف وأنقرة وإسطنبول على خلفية تأكيد حضور قوي للولايات المتحدة في الجولة الثالثة من اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، التي انتهت من دون أن تحقق أي اختراق في جدران تعنت النظام. والظاهر أنه كان هناك تعويل أميركي على اجتماعات هذه الجولة، لكنه مبالغ فيه، حيث توقع جيفري “أن تسلم روسيا الأسد على طاولة المفاوضات”، من دون أن يعطي أي دليل أو مؤشر على ذلك، بل استند إلى توقيع الروس على قرار مجلس الأمن 2254، وعلى الاتصالات المتكرّرة معهم، وخصوصا “المرونة التي أبداها النظام لعقد اجتماع اللجنة الدستورية، بما في ذلك اللقاء مع معارضين له”، لكنه اعترف بأن “روسيا لم تتخذ بعد قراراً استراتيجياً بالانتقال كلياً من خيار الحل العسكري إلى الحل السياسي”. ومع ذلك بقي جيفري معوّلاً على “تطورات مثيرة” ستحدث في القضية السورية، من خلال البديل الذي يمكن أن تتمخض عنه اجتماعات اللجنة الدستورية في توفير بيئة آمنة، من دون تحديد ماهيتها، وما إذا كانت هي البيئة الآمنة نفسها التي وردت في القرارات الأممية، ويتطلع إليها السوريون للخلاص من نظام الاستبداد.
إذاً، لا تشي التحرّكات الدبلوماسية الأميركية أخيرا بحدوث تغير كبير في تعامل الولايات المتحدة مع القضية السورية، كونها مبنية على توقعات وآمال وتطلعات بتقدم العملية الدستورية، وصياغة دستور جديد، يسبق انتخاباتٍ حرّة ونزيهة، تحت رعاية الأمم المتحدة وإشرافها، وهو أمر يرفضه النظام جملة وتفصيلاً، وليس هناك أي مؤشّر على أن الروس يمارسون ضغوطاً حقيقية على النظام، من أجل حثّه على السير في هذا الاتجاه، بل على العكس، ما زال ساسة النظامين، الروسي والإيراني، متمسكين بالأسد ونظامه، وبالخيار العسكري من أجل تحقيق مصالحهم في سورية والمنطقة، ويعيقون أي مسعىً للوصول إلى حلّ سياسي أممي ينهي الكارثة السورية.
المصدر: العربي الجديد