الشيباني مرنٌ وحِرَفِي.. ولكن

  إياد الجعفري

 

كانت المقابلة التي أجراها وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، مع “الإخبارية السورية”، مساء السبت، موفّقة إلى حدٍ ما، في تقديم إشارات تطمينية، وإن كانت عامة وغير تفصيلية، حيال المخاوف المشروعة التي أثارتها زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى روسيا، قبل أيام. كما وتضمن حديث الشيباني، إشارة إيجابية أخرى حيال ملف السويداء، تستحق الوقوف عندها. فيما كانت المقاربة التي أفصح عنها حيال العلاقة مع المكوّن الكردي مثيرة للاستغراب.

أولى النقاط الملفتة في حديث الوزير، إشارته إلى تغيّر منطق الدبلوماسية السورية من “دبلوماسية ابتزازية” في عهد النظام المخلوع، إلى “دبلوماسية متوازنة” تستهدف تربيط المصالح مع الفاعلين الإقليميين والدوليين، وتنتهج “الواقعية” في السياسة الخارجية، مع محاولة تجنّب الوقوع في فخ الاستقطابات الخارجية، أو أن تتحول “بلدنا لمعركة بالوكالة أو حرب بالوكالة”. فلم يتم الاصطفاف في “معسكر معين” أو إعلان القطيعة مع بلد محدد.

ومن بين الملفات المهمة التي أشار إليها على صعيد السياسة الخارجية الجديدة، محاولة تخليص العلاقة مع لبنان من إرث النظام السابق، الذي كان يتعامل مع هذا البلد الجار بمنطق “تشبيحي”، أضرّ بشدة بالعلاقة بين الشعبين السوري واللبناني. وهو ما يتم العمل على معالجته الآن، حسب ما يفهم من سياق كلام الوزير.

لكن ملف العلاقة مع روسيا، كان الجانب المحوري في حديث الشيباني. فهو أزال جانباً من اللغط الذي أثارته تصريحات للرئيس الشرع، خلال لقائه بنظيره الروسي، فلاديمير بوتين. وأبرزها عبارة “نحن نحترم كل ما مضى من اتفاقيات”. إذ أوضح الشيباني ثلاث نقاط مهمة على هذا الصعيد: الأولى، أن الحكومة السورية الحالية لا تقبل بالاتفاقيات الروسية السابقة المعقودة مع نظام الأسد، وأنها معلّقة. الثانية، أنه يتم التفاوض وإعادة التقييم لكل ما كان من تلك الاتفاقيات السابقة. أما النقطة الثالثة، أنه لم يتم التوصل إلى اتفاقيات جديدة، وأن هناك تدرجاً في بناء العلاقة السورية الروسية الجديدة.

لذلك نعتقد أن الجدل الذي أثاره إعلاميون ومؤثّرون سوريون حول تصريحات الشرع بموسكو، كان مفيداً. لا تشكيكاً بنيّة مسؤولي الحكومة السورية -بالضرورة- لكن هذا هو دور الإعلام بوصفه سلطة على السلطة التنفيذية، لا أداة دعائية لها. دوره أن يثير اللغط حول تفاصيل أدائها، بصورة تضطرها إما إلى تصويب هذا الأداء، أو توضيح ملابساته، إن كان اللغط نابعاً عن نقص الشفافية والمعلومات المتاحة.

وفي النقطة الأخيرة، يأتي حديث الشيباني -على عموميته- مفيداً في التأكيد على أن القواعد الروسية هي محط تفاوض حالياً، وأنه لا تنازل عن حقوق الشعب السوري في أي ملف، لا فيما يتعلق بمصير المخلوع، بشار الأسد، ولا بملف العدالة الانتقالية ومجرمي النظام الهاربين إلى موسكو، ولا بخصوص حق السوريين بجبر الضرر من جرائم آلة الحرب الروسية بحقهم على مدار أكثر من 9 سنوات.

تلك “الندّية”، التي أوحى بها حديث الشيباني، على صعيد العلاقة الجديدة مع روسيا، هي الأمر المرغوب به. ويبقى أننا بحاجة لتفاصيل أكثر حول الاتفاقيات التي يتم التفاوض حولها؟ وهل تشمل فقط الجوانب العسكرية والأمنية والسياسية من العلاقة مع روسيا، كما توحي بذلك طبيعة الوفد الذي رافق الشرع، (وزير الخارجية والدفاع ورئيس المخابرات، وأمين عام الرئاسة)؟ أم تشمل الاتفاقيات الاقتصادية الإذعانية السابقة، كما في مرفأ طرطوس وقطاع الفوسفات والأسمدة والطاقة؟! وماذا بخصوص ملف الديون الروسية، استناداً إلى تصريح الشيباني الشهير، في كانون الثاني الفائت، حينما تحدث عن ديون لروسيا وإيران بقيمة 30 مليار دولار؟

وبالانتقال إلى ملف السويداء، كان متقدماً للغاية إقرار الشيباني غير المباشر، بالخطأ الكبير الذي ارتكبته حكومته في أحداث تموز الفائت. وتلك ليست المرة الأولى التي يقرّ فيها مسؤول كبير في دمشق، بأن أحداث السويداء كانت “فخاً” وقعت فيه. فقد أقرّ الشرع شخصياً بذلك، قبل نحو شهر. لكن الشيباني أضاف هذه المرة، أنه “حدث لم تختره الحكومة السورية أن يصل إلى هذا الشيء”. كما أنه أقرّ بأنه “جرح سوري”. هذا الإقرار الرسمي بـ”الخطأ”، وإن كان غير مباشر، إلى جانب المبادرات الهادفة إلى تضميد الجراح -على محدوديتها حتى الآن- تستحق مقاربة مماثلة ممن يديرون الضفة المقابلة في جبل العرب، بغية وضع معضلة السويداء على سكة الحل.

ومما يمكن الوقوف عنده، في معرض حديث الشيباني عن المفاوضات مع “قوات سورية الديمقراطية- قسد”، كان موقف الشرع من تحفظاتهم على قضايا وصفها الوزير بـ”التفصيلية”، وليست “الجوهرية”، كـ”الإعلان الدستوري”، وعدم إدراج “عيد النوروز” ضمن مرسوم الأعياد الرسمية الصادر عن الرئيس. إذ كان الجواب على هذه التحفظات، من جانب الحكومة بدمشق، أنكم عندما تدخلون في “المنظومة”، سيكون ذلك مطروحاً على الطاولة، وسيُحل “بشكل طبيعي”.

ومن الجيد أن نعلم، أن الرئيس الشرع يرى “الإعلان الدستوري”، أمراً تفصيلياً وليس جوهرياً، مما يجعله قابلاً للتفاوض وإعادة التقييم، مع الإشارة إلى أنه كان سبباً عميقاً للكثير من الاستقطابات الحادة في الساحة السورية. لكن الصادم أن إدراج “عيد النوروز” ضمن قائمة الأعياد الرسمية السورية، كان يتطلب، وفق ما نفهم من حديث الشيباني، أن تنخرط “قسد” في منظومة الحكم الانتقالي القائمة بدمشق. وهنا، نتساءل: هل كان منح “الأكراد” بوصفهم مكوناً أصيلاً من مكونات الشعب السوري، عيداً رسمياً يخصهم، يتطلب أن تنخرط قوة سياسية تدعي تمثيلهم ضمن منظومة الحكم؟ ألم يكن الأَوْلى لرأس تلك المنظومة -أحمد الشرع- أن يكون الأحرص على منح “الأكراد” ما يشعرهم بأنهم ممثلون في هذه المنظومة، كمكوّن مجتمعي، لا بوصفهم قاعدة لقوة سياسية محددة؟!

في الختام، يجب الإقرار بأن الشيباني يمثّل أحد أبرز مراكز القوى، داخل تركيبة الحكم الجديد، التي يمكن الرهان على مرونتها وحرفيتها، وعدم انتظامها في سياق أيديولوجي متصلب. ومع ما يُعتقد من وزنه الكبير داخل “الدولة العميقة” التي تجري محاولة تأسيسها اليوم، يبقى وزير الخارجية من أبرز مفاتيح الوسطية، الظاهرة للعيان، في أداء التركيبة الحاكمة بدمشق. لكن يبقى نقصٌ جلّي في منسوب مرونته وحرفيته تلك، وفق ما يظهر من حديثه، تتعلّق بالتعامل مع مكونات النسيج السوري، من زاوية القوى التي تدعي تمثيلها، لا من زاوية كونها هدفاً بذاتها، تجب المبادرة نحوها، لا انتظار انتظام “ممثليها” في المنظومة الحاكمة.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى