
في بداية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، رُصِدت مسيّرات يشتبه بأنها روسية، كانت تحوم فوق مواقع استراتيجية في كل من ألمانيا وبلجيكا. منذ ذلك الحين، لم تتوقف التحليلات عن دوافع ذلك التحرّك الخطير، خصوصاً أن الجميع، رغم التطمينات التي يبثّها الروس، يجمعون على أنه لا يمكن استبعاد أن يتجرّأ الروس على تنفيذ هجمات في قلب أوروبا. والرسائل خلف هذه الخطوة كثيرة، أهمّها التذكير بقدرة الطائرات المسيّرة على خرق الأجواء مع صعوبةٍ تعقّبها، لبساطتها أولاً، ولأن تكلفة تعقّبها وإسقاطها، وما يترتب على ذلك من أضرار، أكبر بكثير من مخاطر إبقائها، فلا يُعقل إرسال صاروخ باهظ الثمن لتدمير مسيّرة قد لا يتجاوز سعرُها بضعة آلاف من الدولارات. هذه الطائرات المسيّرة، مهما كانت بساطتها وحجمها، قادرة على الترهيب والترويع والتخريب.
أحدث تحليق المسيّرات الروسية في السماء الأوروبية حالةً كبيرةً من التوتّر والارتباك. ويتزامن التذكير بالمقدّرات الروسية مع استهداف مركّز للمطارات الروسية بواسطة طائرات مماثلة خلال الأسابيع الماضية، إذ لا يدّخر الأوكرانيون وسعاً في سبيل إيلام الروس، وامتدّ الأمر إلى مواقع تكرير النفط الروسي وتصفيته، ما أحدث حالةً من الشلل في هذا القطاع الاستراتيجي. ولمّا كانت الدول الأوروبية هي من تقف خلف الجيش الأوكراني، ففي هذا التطوّر تلويح روسي بتوسيع رقعة الحرب، وقد حذّر بوتين أخيراً الدول الأوروبية من “اللعب بالنار” بمواصلة المشاركة في الحرب. لعلّ بوتين أراد بالمسيّرات الروسية أن يختبر مدى جدّية الأوروبيين في الدخول في مواجهةٍ مباشرةٍ مع موسكو بمعزل عن المظلة الأميركية.
عقب الحدث، عُقدت قمّة أوروبية في كوبنهاغن، عبّر فيها القادة الأوروبيون عن تضامنهم، وأكّدوا قدرتهم على صدّ التهديد الروسي. مع ذلك، توضح القمم الأوروبية كيف يصعُب على الأوروبيين أن يتحدّثوا بلسان واحد، فمنهم المحايد الذي يُتّهم بالتواطؤ مع روسيا (المجر)، والمتحمّس لتقديم الدعم لأوكرانيا، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومن يحذّر من التسرّع والتصرّف بناءً على ردّة فعل (رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني). ومن الطريف أن يتّفق بوتين وترامب المعجب بالزعماء الأقوياء المستبدّين، ومنهم صديقه بوتين، في نقطتين: التشكيك في جدوى “ناتو”، وأن الأوروبيين يطيلون أمد الحرب بتدخّلاتهم ووقوفهم في جانب أوكرانيا، ما يجعل الأخيرة ترفع سقف مطالبها في المفاوضات.
الدول الأوروبية ليست مستعدّة لخوض حرب مباشرة مع خصم عنيد كروسيا
لم يراوح المحللون الأوروبيون المتعاطفون مع الأوكرانيين مكانهم منذ بداية الحرب، فهم يروْن أن الخاسر فيها هم الروس، الذين تُفقدهم هذه الحرب كثيراً من الرجال والموارد، ولا ينظرون، حتى إبّان تهديد أمني خطير تفرضه المسيّرات، إلى هذا التطوّر دليلاً على قدرة روسيا (واستعدادها) لإحداث فوضى أكبر. على العكس، يرونه دليلاً على ضعفها، ورغبتها في أن تثبت وجودها بأيّ طريقة. يميل هؤلاء إلى القول إن حالة الضغط الاقتصادي بسبب الحرب لن تشجّع صاحب القرار الروسي على فتح جبهات جديدة.
ليس هذا التحليل خطأً بالكامل، فلا يمكن التقليل من تكلفة إدارة حرب كبرى طوال هذه الفترة، لا سيّما إذا ما تزامنت مع مقاطعة وعقوبات اقتصادية قاسية، وإذا كان هذا هو الحال في مواجهة دولة متوسّطة الإمكانات كأوكرانيا، فبإمكاننا أن نتخيّل ما سيكون عليه الأمر في إثر اندلاع صراع مع دول أوروبا، ما سوف يعني، بالضرورة، مواجهة “ناتو”. مع ذلك، يجب القول إن الصورة لن تكتمل من دون أن نتذكّر أن الدول الأوروبية ليست مستعدّة لخوض حرب مباشرة مع خصم عنيد كروسيا.
لم يكن هذا الاختراق للسيادة الأوروبية الأول، فقد سبقه تحليق مسيّرات في سماء بولندا، ومقاتلات روسية في أجواء إستونيا، وتعطيل الكابلات البحرية في بحر البلطيق، واستخدام الهجمات السيبرانية لتعطيل الملاحة، وغير ذلك من أعمال وصل بعضها إلى حدّ محاولة التأثير في نتائج الانتخابات. لم تكن هذه التجاوزات كافيةً لتوحّد أوروبا جهودها، فتوجّه رسالة تحذير جادّة إلى بوتين. ولا أدلّ على الموقف الأوروبي المتردّد من تصريح المستشار الألماني فريدريك ميرز الذي قال: “نحن اليوم لسنا في حرب، ولكنّنا لم نعد في سلام أيضاً”.
المصدر: العربي الجديد