
أكملت احتجاجات شباب “جيل زد” في المغرب نحو أسبوعين بزخم متزايد، وامتدّ حراكها إلى معظم المدن المغربية الكبرى وبلداتٍ عديدة. وليس من مؤشّر على خفوتها أو قرب نهايتها، بالنظر إلى أنها ليست مجرّد موجة غضب شبابي عابرة، بل صرخة جيل بأكمله، لها لغتها الرمزية الخاصّة، المعبّرة عن موقف وجودي، وسعي نحو تغيير سلمي حقيقي، فالاحتجاجات ليست مجرّد مطالب تُطرح في الشعارات، والهتافات، واللافتات، بل وسائل تعبير يُعاد فيها قراءة علاقة الشباب بمجتمعهم، وطموحاتهم في تأسيس مفهوم المشاركة وفق مبادئ المواطنة المتساوية في لحظة استدعاءٍ للعدالة الاجتماعية، وللخلاص من إرهاصات واقع لا يطاق.
ما يحدُث في شوارع المدن والبلدات المغربية وساحاتها يُسائل الدولة وأصحاب القرار، كما يسائل الهيئات والمؤسّسات السياسية والمدنية، ويحثّها على ترجمة مطالب الشباب إلى سياساتٍ فعليةٍ تأخذ في الاعتبار مصالح جميع المواطنين، وليس مصالح الفئات المهيمنة والمتنفّذة، وبما ينهي تحوّلها كياناتٍ متوازيةٍ وفاسدة، منفصلة عن الناس، ولا تهتم بمصالحهم وهمومهم وتطلّعاتهم.
لم يعد “جيل زد” (الشبّان الذين وُلدوا بين 1996 و2009) يثق بالمرجعيات والقوى والأحزاب السياسية، ولم يتمكّن من التعبير عن نفسه في الفضاء العمومي، فلجأ إلى الفضاء الرقمي ومنصّاته، التي استوعبت ما يطلقه من “ترندات” و”هاشتاغات”، وراح يُحمّلها مطالبه التي تعبّر عن رفضه الظلم، وغضبه العارم من تفشّي البطالة، وتردّي الأوضاع المعيشية، وتدنّي الخدمات.
خرج هذا الجيل من عالم الشاشات والمنصّات الرقمية، ونزل إلى الشوارع والميادين العامّة، مطالباً بتأمين فرص عمل، وتحسين الظروف الصحية، والتعليم، وضمان العدالة الاجتماعية، بالإضافة إلى ضبط أسعار المواد الأساسية، ورفع الحدّ الأدنى للأجور، وإصلاح نظام التقاعد، وحماية حقّ التظاهر والتعبير السلمي. وبالتالي، فإن هذا الجيل لم يركن إلى قوقعة عوالمه الرقمية، كي تكبت ضجيجه الصامت، بل كي يحوّله صراخاً مدوّياً، عبّر عنه في حراك احتجاجي، أحدث تغيرات جذرية في ميادين الفعل الاجتماعي السياسي، تتطلّب التوقّف عندها مليّاً، بغية فهم ما يجري، والبحث عن مخرجات وحلول ناجعة، والحيلولة دون تفاقم الأوضاع.
الغضب الجماعي من أوضاع معيشية لا تطاق، يمنح الحراك تعبيرات تفوق ما يمكن أن يحمله أي بيان سياسي
لا ينقص من الحراك المغربي عدم ظهور قيادة واضحة ومعلنة له، وليس صحيحاً ما يشاع عن افتقاره بنيةً تنظيميةً، فالغضب الجماعي من أوضاع معيشية لا تطاق، يمنح الحراك تعبيرات تفوق ما يمكن أن يحمله أي بيان سياسي. ومع ذلك أصدر ناشطو الحراك بياناً وجهوه إلى الملك محمّد السادس، حمل مطالبهم بإقالة حكومة عزيز أخنوش، بالنظر إلى “فشلها في حماية القدرة الشرائية للمغاربة، وضمان العدالة الاجتماعية”، وبإطلاق مسار قضائي نزيه لمحاسبة الفاسدين. إضافة إلى المطالبة بعقد “جلسة وطنية علنية لمساءلة الحكومة الحالية أمام أنظار الشعب، برئاسة الملك، هدفها “ليس الانتقام، بل إرساء سابقة تاريخية، تؤكّد أن المغرب دخل مرحلة جديدة من ربط المسؤولية بالمحاسبة الفعلية”.
يختلف حراك “جيل زد” عن حراك 20 فبراير (2011)، من جهة الفاعلين المحرّكين، إذ جاء الأخير في سياقات إقليمية ودولية ضاغطة، وتصدّرته قوى وأحزابٌ سياسيةٌ معارضةٌ، وكان صدى الثورات العربية، وساهم في إحداث هزّة كبيرة في المشهد السياسي المغربي، تُرجمت بولادة دستور جديد، وإجراء انتخابات سابقة لأوانها مكّنت للمرّة الأولى في تاريخ المغرب من صعود إسلاميين إلى سُدّة الحكم. وقد شكّلت مطالب حركة 20 فبراير مرجعيةً لحركات احتجاجية عديدة نشأت في السنوات الماضية في المغرب بالشعارات والأهداف نفسها، وكان من أبرزها حراك الريف الذي اندلع في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، وحراك جرادة (نسبة إلى مدينة جرادة) في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2017.
حراك اليوم في المغرب يختلف عن حراك 2011: قيادة رقمية، ومطالب اجتماعية، وتطلّع لطريقٍ سياسي بديل
اختلف الأمر هذه المرّة مع حراك “جيل زد” الذي أعلن قطيعةً مع المؤسّسات السياسية، وركّز في مطالب اجتماعية بالدرجة الأولى، مدخلاً للتعبير عن ذاته السياسية، فضلاً عن أنه الجيل الأكثر اتصالاً بالعالم، والأكثر وعياً بالفوارق الاجتماعية والطبقية، وخرج من وضعية الكمون أمام الشاشات إلى الفعل في الساحات، بعد أن أدرك نفسه قوةً فاعلةً، وتمكّن من تنظيم نفسه رقمياً في منصة ديسكورد، التي حوّلها من منصّة ألعاب إلى غرفة عمليات، وراح يترجم غضبه المكبوت إلى تظاهرات احتجاجية عارمة، محوّلاً لحظة الانفعال إلى قوة فعل، وليس مُستغرَباً أن تتقاطع مطالبه مع مطالب سائر الفئات المتضرّرة من السياسات السائدة، وخاصّة الفئات المهمّشة والفقيرة.
لن تجدي نفعاً سياسة اللامبالاة تجاه الحراك الشبابي، واعتباره مجرّد فورة شباب لن تستمرّ طويلاً، ولن تنفع كذلك السياسات القائمة على القمع واستخدام العنف، الذي أودى بحياة ثلاثة ضحايا في الأسبوع الأول من الاحتجاجات، وجرح المئات، فضلاً عن حملة الاعتقالات الواسعة. والأجدى هو التعامل معها بوصفها حركة احتجاج واسعة على السياسات المتبعة منذ ما قبل 2011، التي أفضت إلى ارتفاع نسب التضخّم وارتفاع الأسعار، وفاقمتها إجراءات حكومة أخنوش التي خصخصتْ بشكل غير مدروس قطاعَي التعليم والصحّة، وأدّت إلى ارتفاع نسب البطالة التي تجاوزت نسبة 13.6%، لا سيّما في صفوف الشباب ما بين 15 و35 سنة، فبلغت نحو 50%، مع وجود أكثر من ثلاثمائة ألف شاب من أصحاب الشهادات الجامعية.
خلل بنيوي عميق في سياسات السلطة، التي يديرها ما يعرف مغربيا بالـ”المخزن“
واحتل المغرب المرتبة 94 من أصل 99 دولة في مؤشّر نمبيو للرعاية الصحّية لعام 2025، إذ يوجد أربعة أطباء لكل عشرة آلاف نسمة. كما أدّت السياسات المتّبعة إلى حرمان مغاربة عديدين من حقوقهم الأساسية في العمل والتعليم. وبيّن الإحصاء العام للسكّان، الذي أُجري العام الماضي (2024)، أن عدد الشباب بين 15 و29 عاماً، يصل إلى 8.2 ملايين شابّ، من بين إجمالي عدد سكّان المغرب الذي يقدّر بحوالي 36.8 مليون نسمة، ولا تتوفّر فرص العمل لقطاع كبير من الشباب، فيما لا تحصل نسبة كبيرة من العاملين في القطاع الخاصّ على عقود عمل ولا تأمين صحّي. وحسب تقرير المندوبية السامية للتخطيط، يساهم القطاع غير الرسمي بنحو 10.9% من الإنتاج الوطني باستثناء الفلاحة والإدارة العمومية، وله دور مهم في توفير فرص العمل، إذ وفّر 33.1% من إجمالي فرص العمل غير الزراعي في عام 2023.
من المهم قراءة احتجاجات “جيل زد” المغربي مؤشّراً مهماً على خلل بنيوي عميق في سياسات السلطة، التي يديرها ما يعرف بالـ”المخزن”، والتخلّي عن المقاربة التي تنهض على تراجع دور الدولة في المجال الاقتصادي والخدمي، والاستجابة لمطالب الشباب وتوفير فرص العمل لهم. والأهم هو التخلّي عن المعالجة الأمنية والانفتاح على حوار حقيقي، مقترناً بتغييرات ملموسة في الصحّة والتعليم ومحاربة الفساد، فما يجري في الشوارع المغربية هو بمثابة جرس إندار، أعلن أن جيلاً كاملاً من الشباب دخل ساحة الفعل السياسي والاجتماعي، ومن خارج الأطر والقنوات الرسمية، مسلّحاً بالذكاء الرقمي وبروح الجماعة، ويمثل أكبر تحدّ أمام النظام السياسي المغربي.
المصدر: العربي الجديد