
كشف التراجع السياسي لموجات الربيع العربى المجازى، عن بعض التفكك السياسي في مفاصل عديد الانتفاضات الشعبية ، وبعض عناصرها ، وعجزها عن التعامل مع السلطات الانتقالية، وإدارة عمليات الانتقال السياسى بكفاءة وفاعلية ، وذلك كأحد نتائج ظواهر مورايث موت السياسة فى هذه البلدان، وأيضا غياب قيادات سياسية، لديها ملكات وقدرات تنظيمية، ومهارات، ورأسمال من الخبرات السياسية يتيح لها قيادة الانتفاضات وتوجيهها نحو الأهداف السياسية العامة والغائمة التي تم طرحها في سياقات الانتفاضات والغضب للأجيال الجديدة للشبكات الرقمية. الأخطر أن هذه الانتفاضات لا تعدو أن تكون حالة غضب اجتماعى وسياسي من بعض فئات الطبقة الوسطى اساسا، التى سعت إلى طرح شعارات عامة عن الحرية، والعدالة الاجتماعية، ورفض توريث السلطة فى نظام جمهورى على نحو ما تم في الحالة المصرية ، ومن ثم غياب الخبرات السياسية، وهو ما أدى إلى تفكيك الكتل الجماهيرية الغاضبة ، وقدرة أجهزة الدولة العميقة على التعامل معها، واستقطاب عناصر من داخلها، وتنمية طموحاتها فى شغل بعض المواقع الوزارية، ومعهم تم ايضًا تم التعامل ، واستقطاب بعض عناصر طموحة من الأجيال السبعينية والثمانينية لشغل مواقع وزارية ضمن حكومات غالب رؤسائها من جيل الستينيات وأدي عقلها وسلوكها البيروقراطي لفشلها في استيعاب أسباب غضب الجيل الجديد السياسي والاجتماعي والتعامل معهم .
نجاح أجهزة الدولة العميقة فى تفكيك الانتفاضات من داخلها ومن خارجها، كان تعبيراً عن قدرات هذه الأجهزة ومواريثها، وأيضا لتوظيفها خبراتها الدولتية والسياسية، فى إدارة المراحل الانتقالية، والتعامل مع صعود جماعة الإخوان والسلفيين إلى سدة السلطة وبث التناقضات ، وتوسيعها فيما بين بعضها بعضا ، ومع الطبقة الوسطي المدينية ، وتوظيف تغييراتها وتعديلاتها للدساتير، وبعض القوانين في إثارة معارضات ، ورفض المدن الكبرى على نحو أدى إلى حالة غضب جماهيرى، فى المدن العربية المريفة – تونس العاصمة ، ومنطقة الساحل، والقاهرة والإسكندرية وعديد المدن المصرية-، وهو ما شكل سندًا لعملية اضطراب وفشل السلطات ذات الإيديولوجيا الدينية ، والتى كانت تفتقر لرأسمال خبراتى حول الدولة، وإدارة شئون الحكومة، والبلاد من خلال تصوراتها النمطية والدينية حول السلطة، والدولة بعيدًا عن السند الأساس للدولة والسلطة الشرعية، وهو رضاء الأمة فى مصر، والشعب التونسي ، ومن ثم سند الشرعية السياسية الأساس .
لا شك أن عدم الاستقرار السياسى فى تونس علي الرغم من الدستور، والتشكيلات الحكومية ، ورؤساء الدولة المتعاقبين بعد رحيل زين العابدين بن علي ، ومرجع ذلك هيمنة بعض أوهام القوة الرمزية لدى قيادات حزب النهضة، فى إمكانيات توظيف الإيديولوجيا الإسلامية السياسية فى تعبئة، وحشد القطاعات الشعبية المهمشة فى الجنوب والوسط التونسى، وخاصة الشباب، وحول المهمشين فى العاصمة في توظيفهم في مواجهة الفاعلين السياسيين الأخرين .
وراء الفشل السياسي في ادراة تناقضات ومشاكل الانتقال السياسية، سطوة الروئ الغائمة، وضعف الخبرات فى الممارسة السياسية، والأخطر الانخراط فى بعض الممارسات السلطوية التقليدية فى الحكومة، أو البرلمان تجاه بعض القوى التى تنتمي تاريخيا إلى التقاليد السلطوية البورقيبية، وعهد زين العابدين بن على.
فشلت أيضا هذه القوى المفككة، واليسار والقوميين العرب فى تنظيم قواهم البينية، وأيضا فى تعبئة القوى العلمانية والليبرالية واليسارية لبعضهم بعضا ، فى إدارة العمليات السياسية الانتقالية على نحو يتسم بالذكاء السياسى، والقدرة علي المناورة ، وتعبئة قواعد شعبية داعمة لهم ، وإنما اعتمد بعضهم علي تمويلات ودعم دول عربية وآخرين ، وادي الي بعض من فجوة ثقة ازاءهم ، ومن ثم ضعفهم النسبي واضطرابهم تجاه حزب النهضة، وتجاه الأجيال الشابة المهمشة، والأزمات الاقتصادية، والبطالة للجامعيين والمتعلمين، وتراجع نوعية التعليم، وغياب الفرص للحراك الاجتماعى لإعلي، ومن ثم فقدان الأمل فى المستقبل، أو صعوبة الهجرة للخارج، التى باتت محاطة بالقيود التى فرضتها الدول الغربية. ظل القوة الأساسية للمعارضة المرأة التونسية وميراث إصلاحات بورقيبة لهن ، ومواقف إلاتحاد التونسي للشغل وتاريخه الوطني والنقابي .
فى المشرق العربى، استطاعت السلطات فى سوريا قمع الاحتجاجات والانتفاضات إلى حين فى ظل عهد الأسد الابن، ورهّابُ الخوف لدى تحالف الأقليات الطائفية الذى يرتكز عليه الحكم الاستبدادى الغاشم، ناهيك عن تفكك وانقسامات بعض المجموعات المعارضة، على نحو أدى إلى فشل الانتفاضة الشعبية، ثم أدت آليات القمع، والانكشاف السورى والإيرانى تجاه إسرائيل، وتركيا وادت إلى انهيار النظام على نحو غير مسبوق في المنطقة ، ووصول النظام الجديد المدعوم أمريكا وتركيا وإسرائيل وبعض الدول العربية النفطية !
الحالة الليبية، كانت تعبيرا عن التدخل الدولى والعربى النفطى لإسقاط نظام القذافى الاستبدادى، وتفكك البلاد ، والتدخل الفرنسى، والتركي، والإماراتي، وعودة القبلية السياسية، دونما أفق لحلول سياسية في الآجال المقبلة .
الحالة اليمنية، هى نتاج للقبلية السياسية، والتدخل من دول الجوار الجغرافى، تمويلاً وتسليحاً، وغياب نخب يمينية، وثقافة سياسية دولتية، وجوامع وطنية مشتركة عابرة للبنيات القبلية، والمناطقية المختلفة.
فى الحالة السودانية، كانت الانتفاضات الشعبية المختلفة منذ الاستقلال غير قادرة على تغيير ثنائية العسكر، المدنيين المستمرة منذ الاستقلال، وذلك دونما انتقال فعال إلى حكم مدنى ديمقراطى، ناهيك عن استمرارية هيمنة قبائل الوسط النيلي الثلاث الكبرى والفرعية على الحكم، سواء من العسكريين، أو المدنيين، وتهميش بقية مكونات السودان فى إقليم دارفور ، وشرق السودان، وجنوبه الذي انفصل في دولة مستقلة عن الحكم الإسلامي السلطوي ، الأخطر فشل مشروعات التنمية، وبناء الموحدات الجامعة فوق المكونات القبائلية الأفريقية والعربية المتعددة عرقيا ومناطقيا .
فشل عديد من الاحتجاجات الشعبية العربية مرجعها هشاشة الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال، ومعها مفهوم الوطنية الجامع لمكونات مجتمعات انقسامية قبلية وعرقية، ومناطقية، ودينية، ومذهبية، وقومية ولغوية.
الدولة الوطنية الهشة كانت نتاجات لدمج النخب السياسية بعد الاستقلال، السلطات الدولتية الثلاث تحت سيطرة زعاماتها السياسية، ودمج الدولة ككيان رمزى متعالً فى السلطة الاستبدادية، والتسلطية، وقمع المعارضات السياسية –أيا كانت- والحريات العامة والشخصية، وتحول الدساتير إلى محض وثائق ورقية غير فعالة فى إدارة الدولة والنظام ولاتضبط السلطة التنفيذية ومركزها عند قمتها ومعه مواقع القوة حوله، والزبائن السياسيين مثل سوريا الأسد ، وليبيا القذافي ، ويمن علي عبد الله صالح وسودان عمر البشير .
إغلاق المجال العام السياسى، وموت السياسة، ومن ثم غياب المؤسسات التمثيلية للمكونات الداخلية ، وفشل سياسات التكامل الداخلى واستراتيجية بوتقة الصهر التى اعتمدت على الآلة الأمنية، والاستخباراتية، من خلال قوة أجهزة الدولة التى تحتكر القوة المادية، والرمزية الإيديولوجية، وتوظيف الدين فى السياسة ونظام الشرعية، والتعبئة والتبرير لسياسات السلطة الحاكمة. الخلط بين الدين فى العمل السياسى، نشطَ التيارات الدينية والمذهبية المعارضة فى التمدد القاعدي وسط الفئات الشعبية، والمذهبية، تجاه السلطة الحاكمة، وتجاه الأقليات الدينية والمذهبية الأخرى.
أدى فشل مشروعات التنمية وسياساتها، فى مجال الخدمات والحقوق الاجتماعية العدالية إلى تنامي ، وتراكم الغضب الاجتماعى والسياسى لدى الفئات الاجتماعية المهمشة، وباتت تمثل قاعدة تمدد للجماعات الإسلامية السياسية، والسلفية ، وبعض الجماعات الراديكالية فى المنطقة العربية، وإلى تحول بعضها إلى جماعات راديكالية تمارس نشاطاتها على المستوى العالمى، على نحو ما تم من تنظيم القاعدة فى الحادي عشر من سبتمبر 2001 فى أمريكا، وعمليات الدهس فى فرنسا، وغيرها فى أوروبا، ووصل بعضها إلى إقامة دولة داعش في العراق وسوريا!
الدولة / النظام، ووطنياتها الهشة، هي ما وراء اضطراب وعدم الاستقرار السياسى، والانتفاضات الجماهيرية الجيلية التى وصلت إلى انتفاضة جيل Z ) ( الرقمي في مواجهة جمود العقل السياسي لبعض من نخبة دولة المخزن المغربية وحكومتها، وتشير إلى جيل مختلف عن أجيال التمرد العربية السابقة، ومن ثم يتطلب التكيف السياسي والفكري مع تحولات الأجيال الجديدة Z وآلفا وبيتا القادمين في عالم فائق السرعة والتغير.
المصدر: الأهرام