
انشغلتُ في العامَين الماضيَّين بإعداد برنامج بعنوان “وجوه من الخليج”، يُعرض في شاشة تلفزيون العربي 2، و”العربي+”، ويستضيف أكثر وجوه الحياة الفكرية والثقافية والفنّية في الخليج العربي أهميةً، للحديث عن تجاربهم الشخصية والمهنية. لفت نظري في أغلب حلقات البرنامج، خصوصاً التي صوّرناها مع مثقّفي الخليج من مواليد الأربعينيّات والخمسينيّات، حضور مصر ممثلةً في أربعة أعمدة رئيسة: الجامعة، وجمال عبد الناصر، وأمّ كلثوم، ونجيب محفوظ، كانت قاسماً مشتركاً في حلقات (ومكتبات) الروائيين والنقّاد. أمّا الجامعة، فقد درس فيها أغلب مثقّفينا في الخليج، وأمّا “ثومة” وعمّ نجيب، فهما الأكثر أهميةً وتأثيراً في مجاليهما. ولذلك، من المفهوم (والمتوقّع) أن يكونا محلّ اهتمام وتقدير مِن كل مشتغل أو مهتمّ بالثقافة العربية في القرن العشرين، لكن ما أدهشني حقّاً هو حضور عبد الناصر الطاغي (وليس الطاغية) في سرديات مثقّفي الخليج، وفي مخيّلاتهم، فضلاً عن إعلان هذا الحضور بأريحية محمولة على ظهور الحكايات والذكريات والتفاصيل والصور، بل والمرافعات (أحياناً) عن الرجل ومشروعه وزعامته، بعد كل ما تعرّض له من تشويه “مدفوع”، وبعد أن أصبح اسمه عنواناً للمثاليات الفارغة في مواجهة “العقلانيات” التي نرى نتائجها “الواقعية” في حيواتنا العربية كل يوم، وكل ساعة، وكل ثانية. فكيف استطاع عبد الناصر أن يحتفظ بمكانه ومكانته، وأن يتجاوز حدود مصر “العاطفية” إلى عقول مثقّفي الخليج ووجدانهم؟
يتجاوز حضور عبد الناصر في وجدان النُّخب الثقافية “قيمةً” إلى حضوره في عقول النُّخب السياسية “هاجساً”، وهو ما رأيناه مراراً منذ بداية حرب إبادتنا، في غزّة أولاً، ثمّ في لبنان وإيران وسورية واليمن وقطر، والبقية آتية لا محالة. إذ لا يجد وكلاء العدو في بلادنا حاجباً عن شعوبهم سوى استدعاء صوت عبد الناصر، في نُسخ منزوعة (عن عمد) من سياقاتها التاريخية، كي تضفي على تواطؤات اليوم مسحةً من شرعية الأمس ممثّلة في الصوت الوحيد الذي ما زالت الآذان العربية تسمعه وتصدّقه.
ولكن لماذا؟ لماذا صوت عبد الناصر ما زال حاضراً ومؤثّراً قيمةً لدى شعوبه، وهاجساً لدى أعدائه ووكلائهم؟ لماذا لم ينلْ منه هذا التشويه كلّه، رغم أنه مدعوم بترسانة من أسلحة الخداع المحلّية، والتمويلات الإقليمية، والسرديات المستوردة، فضلاً عن عامل الزمن، الذي يأتي (بطبيعته) على كل فكرة، وكل شخص، وكل حكاية، ولا يترك شيئاً على حاله، ولا يفلت منه سوى الأنبياء والفلاسفة والمصلحين والمبدعين الذين تركوا آثاراً خالدةً، عصيّةً على الفناء. فهل كان عبد الناصر من هولاء؟… عبد الناصر في سياقه كان مهمّاً، ومؤثّراً، لكنّ أخطاءه الكبيرة والفادحة كانت كفيلةً (وحدها) بتجاوزه، فماذا حدث؟… “لم يحدث شيء”. هكذا يخبرنا واقعنا “العقلاني” بعد عبد الناصر أنه لم يحدث شيء (وهذا كل ما في الأمر). حتى حرب أكتوبر 1973، التي أنجزها الجندي المصري، ساهم عبد الناصر في تجهيزه ثلاث سنوات، وأعاد بناءه نفسياً وعسكرياً، وجاء خلفه أنور السادات، وأهدر دمائها على موائد التنازلات التي سمّيت بالسياسات “الواقعية” و”الثعلبية” و”السابقة لزمانها وأوانها”، ثمّ لا شيء. لا فعل، لا حركة، لا صوت، موت يتكرّر يومياً، موت يتزيّا بلباس الانتصار، موت يتخفّى في دعايات التنمية، موت يُباع بوهم الرفاهية، تختلف الصور واللافتات والأقنعة، وتبقى الوجوه شائهة، بلا ملامح… هكذا هي، وهكذا وعيُنا بها، الذي يترجمه معاودة استدعاء الصوت الوحيد الذي ما زال يقول “شيئاً”… أيَّ شيء.
قلْ ما شئتَ عن أخطاء عبد الناصر وخطاياه (وإن شئت جرائمه)، لا بأس! هذا نقد سهل ومأمون العواقب. ومن ثمّ، فهو إن صدق أرخص أنواع النقد. لكن ذلك (وغيره) لن يغيّر من حقيقة أن عبد الناصر هو الصوت الوحيد الذي ما زال صوتاً، والوجه الوحيد الذي ما زال وجهاً، والفعل الوحيد الذي ما زال فعلاً، وأن كل ما تلاه هو والعدم سواء، وهو والعدوّ سواء.
المصدر: العربي الجديد