
تُمثّل العلاقة بين السلام والعدالة في تسويات ما بعد الصراع أحد أكثر مباحث بناء السلام المعاصر إشكاليةً؛ ففي حين قد يقتضي الوقف الفوري للأعمال العدائية تنازلاتٍ عملية، منها استبعاد آليات المساءلة، تُظهر الأدلة المتنامية أن هذا الإقصاء ينطوي على مخاطر جسيمة تهدد إمكانية ترسيخ سلامٍ مستدام. ويتجلّى التوتر بين تقليص النزاع في الأمد القصير وتحقيق الاستقرار في الأمد الطويل على نحوٍ أوضح عندما تُبرم اتفاقيات السلام من دون تضمينٍ مؤسسيٍّ واضحٍ لآليات العدالة.
إن استبعاد آليات العدالة من اتفاقيات السلام يُضعف بصورة جوهرية البنية المؤسسية اللازمة لاستدامة الحكم في مرحلة ما بعد الصراع. فعندما يُدمَج الجناة في مناصب الدولة من دون مساءلة؛ تتعرض شرعية النظام السياسي لخللٍ بنيوي يتجلى في مستوياتٍ متعددة؛ إذ تنشأ مفارقة يصبح فيها من قوّضوا المنظومة القانونية والسياسية أوصياء عليها. ولا تقف العواقب عند الرمزية، بل يمتد أثرها إلى تكريس انتهاكاتٍ سابقة وانفلاتٍ قانونيٍّ دائم، يحول دون بناء مؤسسات حوكمةٍ ذات مصداقية. ويُعدّ تقويض أسس سيادة القانون من أخطر هذه النتائج؛ فحين تُوحي تسويات السلام بأن القواعد قابلةٌ للتجاوز وأن الفاعلين الأقوياء بمنأى عن المحاسبة، تتشكل بيئة معيارية يُقبل فيها العنف كآليةٍ مشروعةٍ لحلّ النزاعات. ويتجسد هذا التحول عبر تآكل أبعاد العدالة الثلاثة: القانوني، حيث يفقد القانون وظيفته الرادعة وقدرته التنظيمية؛ والإصلاحي، عندما لا يُعتَرَف بحقوق الضحايا ولا يُعوَّضون؛ والتوزيعي، عندما تُترك الاختلالات الهيكلية التي غذّت الصراع من دون معالجة.
الإفلات من العقاب وديناميات العنف المتوارث يُنتج الإفلات من العقاب دوراتِ عنفٍ متوارثةً تجعل فترات وقف الاقتتال مجرد هوامش زمنية بين جولات نزاعٍ جديدة. وتشير بياناتٌ إحصائيةٌ إلى أن لجان الحقيقة، حين تُنشأ فور انتهاء النزاع، تُحقق فعاليةً أعلى بنسبة 75% في منع تجدّد العنف؛ غير أن تغييبها عن اتفاقيات السلام يُفقد العملية هذه الأداة الوقائية المحورية. ويجري تطبيع العنف كوسيلةٍ سياسية عبر تكرار الأنماط وتصعيدها، إذ يُنتج نجاح العنف من دون تبعاتٍ نماذجَ إرشاديةً لفاعلين سياسيين لاحقين. وتفسر هذه الديناميكية إخفاق العفو الشامل المتكرر في تحقيق نتائج السلام المرجوّة، لأن غياب الردع يُبقي السلوك غير القانوني خياراً مُتاحاً بلا كلفة.
عوائق التعافي الاجتماعي وتحديات الشرعية الدولية
إن حرمان الضحايا من حقوقهم عبر استبعاد آليات العدالة يُنتج مظالم موازية يستثمرها مُحرّكو الصراعات لإعادة إشعال العنف؛ فحقوق الضحايا الأساسية في الحقيقة والعدالة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار شروطٌ عملية لإعادة بناء المجتمع. وعندما تتجاهل اتفاقيات السلام هذه الحقوق، فإنها تُعيق تكوين ذاكرة جماعية لازمة للتعافي المجتمعي؛ إذ يفتح غياب السرديات المشتركة حول الماضي الباب أمام التلاعب السياسي بالروايات التاريخية المتنافسة، فتستبقي الجماعاتُ قراءاتٍ متناقضة لأسباب الصراع ومسؤولياته.
إن تعطيل تشكّل الذاكرة الجماعية بفعل غياب عمليات البحث عن الحقيقة يُجهض فرص تشخيص الأسباب الجذرية للنزاع ومتطلبات الإصلاح المؤسسي؛ وتوفّر لجان الحقيقة ونظيراتها منصّاتٍ مُنظّمةً لشهادات الضحايا تسهم في شفاء الأفراد وبناء الاعتراف الجمعي. غير أن تغييبها عن اتفاقيات السلام يُقصي هذه المساحات الحيوية لمعالجة الصدمات الاجتماعية ويحول دون صياغة توصيات للتحول المؤسسي. وعلى المنوال ذاته، فإن عدم إرساء أطرٍ فعّالةٍ للتعويضات يُكرّس تهميش الضحايا وهشاشتهم، ويُبقي قضايا العدالة التوزيعية بلا معالجة، ما يحافظ على الشروط الهيكلية التي غذّت النزاع ابتداءً.
كما يتصاعد خطرُ تآكل الشرعية الدولية في نظامٍ عالميٍّ مترابط تتطلب فيه عمليات السلام دعماً خارجيّاً واسعاً؛ فسياسات الأمم المتحدة المؤسسية المناهضة للعفو تُقيّد تقديم المساعدات التقنية والمالية لعمليات تُكرّس الإفلات من العقاب، في حين يواجه العديد من المانحين الثنائيين قيوداً قانونية تحول دون دعم اتفاقيات تستبعد آليات المساءلة. ويتجاوز هذا البعد الدولي نطاق الدعم المادي ليُرسّخ سوابق معيارية؛ فكل اتفاق سلام يتجاهل العدالة يُسهم في تقويض معايير المساءلة عالمياً ويُشجّع الجناة على مواصلة الانتهاكات عبر الحدود. إن إضعاف قواعد القانون الدولي بفعل التنازلات المتتالية بشأن العدالة يخلق بيئةً مُواتيةً لوقوع انتهاكات مستقبلية، ويُضعف البنية الكاملة للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان.
خاتمة
يُظهر تحليل المخاطر الناجمة عن تغييب آليات العدالة في اتفاقيات السلام أن التوتر المُتصوَّر بين السلام والعدالة ينطوي على سوء فهمٍ جوهري لمتطلبات التسوية المستدامة للنزاعات؛ فالأدلة تُبيّن أن الاتفاقيات الخالية من أحكام العدالة لا تُنهي النزاعات على نحوٍ دائم، بل تُفضي إلى أوضاعٍ هشّة تتسم بإبقاء المظالم بلا معالجة، واهتزاز شرعية المؤسسات، وتطبيع العنف السياسي. ويُقدّم معدّلُ تكرار النزاعات البالغ نحو 57% في الاتفاقيات التي تفتقر إلى آليات العدالة، مقارنةً بمعدلاتٍ أدنى بكثير عند تضمين المساءلة، برهاناً عملياً على ترابط السلام والعدالة.
وتكشف المخاطرُ المتعددة الأبعاد، من شرعية الحكم وسيادة القانون إلى حقوق الضحايا وتشكيل الذاكرة الجماعية والدعم الدولي، تكشف أن السلام المستدام يقتضي آلياتِ عدالةٍ هادفةً رغم تعقيدات التفاوض. وتقدّم المقارباتُ الإبداعية التي تُوازن بين متطلبات التهدئة الفورية وضرورات العدالة طويلة الأمد، مثل المساءلة المؤجّلة، والعفو المشروط المقيَّد، والنماذج الهجينة التي تجمع بين العناصر التصالحية والجزاءية، مساراتٍ تتجاوز الثنائية الزائفة بين السلام والعدالة. وتتمثل الفكرة المحورية في أن الوصول إلى سلامٍ حقيقيٍّ مستدام في سوريا وسواها يتطلب اقتران وقف الأعمال العدائية بمعالجة إرث العنف عبر آليات عدالةٍ مُصمَّمةٍ بعناية.
المصدر: تلفزيون سوريا