
هل بدا لكم العنوان قاسياً؟ معكم كل الحق، لكني آمل أن توافقوني بعد قليل على أنه كان عنواناً ملائماً، إن لم أقل أنه ضروري لتوصيف حالنا.
قد يكون افتقاد أي شعور بالحساسية تجاه ما يجري للآخر المختلف في سوريا اليوم، هو نتاج طبيعي للتموضع الحاد الذي خلفّته سنوات طويلة من النزاع. لكن هذا لا يعفي أي طرف أو أي فرد سوري من السؤال. وماذا بعد؟ أو طرح السؤال السياسي الأشهر “ما العمل؟”.
من المؤكد أن أي نزاع إن كان أهلياً أو وطنياً، لا ينتهي بين أصدقاء أو حلفاء، لكن بين أطراف متعادية. أطراف حملت السلاح بمواجهة بعضها، ولم تكن جيوشاً من الملائكة. تغذَّى أفرادها خلال فترة النزاع بكل ما يجعل من الطرف المقابل مجرَّد شيطان مكتمل الأركان لا يحتمل أن يحوز أية إيجابية. نعم تنتهي الحروب والنزاعات، دون أن تنتهي روائح المستنقع الذي خلّفته. ولهذا بالذات كانت هناك برامج دولية مصممة خصيصاً لحلحلة حالات الاستعصاء تلك. وقد نجحت تلك البرامج في الكثير من الدول والمجتمعات.
كثرٌ من البشر في بلدان مختلفة، سبقونا إلى طرح السؤال الإلغائي: “كيف يمكننا العيش مستقبلاً مع هؤلاء الوحوش؟”.
بالعودة إلى عنوان المادة. فأنا قصدت أن العقد المنصرم (ربما العقود) قد خلق في دواخلنا كسوريين تلك الحالة الحادّة من العداء الإلغائي على المستوى الطائفي غالباً والعرقي أحياناً. هذا هو الوحش الذي تربّى لدينا، دون شعورٍ منا، ولذا يصعب على أغلبنا حتى مجرد الاعتراف بوجوده. هذا هو الوحش الذي عنيته وأردت الخوض في كيفية ترويضه ونحن نحاول العودة لنكون مواطنين متساوي الحقوق والواجبات، مع عقدٍ اجتماعي وطني. كل ذلك، بعد أن نهزم ما شاب دواخلنا مما يجعلنا نرى الآخر مجرد صورة نمطية للشر المطلق. فنطهّر دواخلنا، كي نمحو من أنفسنا فكرة تطهير البلد من الآخر المهتلف.
كثرٌ من البشر في بلدان مختلفة، سبقونا إلى طرح السؤال الإلغائي: “كيف يمكننا العيش مستقبلاً مع هؤلاء الوحوش؟”. في سوريا ردد كثيرون هذا السؤال بصيغٍ مختلفة، على مدى السنوات الطويلة الماضية وحتى اليوم. طرحه سوريون يوم مجزرة الحولة، وحصارات الجوع، ويوم قصف نظام الأسد السوريين بالبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية وصفق له مناصروه. وفي الأمس القريب طرحه سوريون آخرون عندما ارتكبت قوات السلطات الجديدة وموالوها الجرائم ضد المدنيين في الساحل والسويداء، وصفق مناصرون آخرون.
للأمانة وظاهرياً، سيبدو السؤال مشروعاً على الدوام بالنسبة للضحايا. حتى مع تبادل المواقع، فإن المرتكب الآخر هو على الدوام الوحش الذي لا تبرير لوحشيته، بينما سنلتمس الأعذار لمن هو في ضفتنا السياسية أو الطائفية أو القومية. لكن رغم المشروعية الآنية للسؤال، فهو إنما ينطوي على روح إلغائية تقترب من الفاشية. هل ساءكم استخدامي لوصف الفاشية؟ لا بأس، ولكنها حقيقةَ ما ألمَّ بنا جميعاً، كما أراها اليوم شخصياً، حين أحاول الابتعاد قليلاً عن المشهد ما أمكنني كي أن أحيط به.
هذه الملفات سيتصدى لإنجاحها، مجتمع أهلي يريد وطناً لكل السوريين بخطاب سلمي واضح، مع تحييد كامل لكافة الشخصيات المتطرفة والإقصائية من كل الأطراف.
الآن وبعد سقوط نظام الأسد، سيغدو النقاش حول المخرج من هذا المأزق السوري مستحيلاً، فيما لو حاول كل طرف إعادة إنتاج ورواية الوقائع بما يخدم وجهة نظره. فالموالون للسلطة الجديدة ومعارضوها سوف يتبارون حول الوقائع. وللمفارقة الكوميدية، يبدلون أحياناً تلك الرواية التي كانوا تبنّوها يوماً ما، فيما لو اقتضت الضرورة ذلك، فتتحول ثورة 2011 إلى انتفاضة الهمج والرعاع، ويصبح الأسد، لدى البعض، محقاً في إبادة قسم من السوريين الهمج، بعد أن كان هذا “البعض” من أشد معارضي الأسد لأمدٍ طويل.
أما وإنَّ حالنا على هذا النحو، فالأجدى هو ترويض الوحش، كما فعلت كل دول العالم التي نالت نصيبها من النزاعات الوحشية. وهنا لن يكون ذا جدوى لاجتراح الحلول التحدث عمن سبق في الوحشية. في كافة التجارب الدولية عملت الحكومات بصبر وثبات في ملفات ما بعد النزاع بمساعدة أممية. والتشديد هنا على المساعدة الأممية وبرامجها هو بسبب استحالة الترويض الذاتي، إضافة إلى أنه نوع من الضمانة لعدم تفرد المتغلب بالقرارات التي يمكن أن تتجاوز على أية فئة اجتماعية، والوصول إلى سلام مجتمعي قابل للديمومة تقبل به كافة الأطراف.
هذه الملفات سيتصدى لإنجاحها، مجتمع أهلي يريد وطناً لكل السوريين بخطاب سلمي واضح، مع تحييد كامل لكافة الشخصيات المتطرفة والإقصائية من كل الأطراف. خطاب لن تكون فيه لا الروح الثأرية لبعض المطبلين الذين يروجون للجريمة ويبررونها خلال التشفّي بالمختلف، ولا روح التفاهة التي يمتاز بها قمّامو الأخبار المفبركة، ومروجو الأوهام الكاذبة. عندها فقط قد نكون بدأنا الخطوة الأولى والصحيحة للتأسيس لمرحلة بناء وطن، بدل أن نجرّب الطرق الخاطئة وندفع أثمان جديدة، لن يحتملها أي طرفٍ سوري مجدداً.
المصدر: تلفزيون سوريا