كيف يفكر صانع القرار بدمشق حيال أزمة السويداء؟

    إياد الجعفري

كان يمكن التقاط إشارات إيجابية، وأخرى محبطة لكنها متوقعة، في سياق محاولة فهم كيف يفكّر صانع القرار في دمشق، والمقرّبين منه، حيال ملفات المشهد السوري المعقّدة، وذلك في أول إطلالة إعلامية، للدكتور أحمد موفق زيدان، بوصفه مستشاراً للرئاسة السورية للشؤون الإعلامية. وشاءت الأقدار، أن تحصل هذه الإطلالة، على شاشة الإخبارية السورية –برنامج على الطاولة مع معاذ محارب- بعد ساعات فقط من التظاهرة التي شهدتها السويداء، والتي طالب فيها متظاهرون باستقلال المحافظة.

وقبل أن نبدأ في تفنيد بعض الإشارات الملتقطة من هذا اللقاء، علينا أن نحدد الزاوية التي نعتقد أنه من خلالها، يجب النظر للسلطة في دمشق، كي نتمكن من تقديم قراءات واقعية لتعقيدات المشهد السوري. فهذه السلطة، هي سلطة أمر واقع، تحظى بشعبية كبيرة في أوساط الأكثرية العربية السنيّة، لكنها لا تحتكر تمثيل هذه الأكثرية، كما أنها لم تصل للسلطة بموجب انتخابات، بل بموجب القوة المسلحة. هذا التوضيح مهم، كي نفهم، لماذا الإشارات المحبطة في حديث مستشار الرئيس أحمد الشرع، كانت متوقعة. فرغم تركيز أحمد موفق زيدان، على استخدام لازمة “الدولة”، بوصفه يعبّر عنها، إلا أن توصيفاته للأمور، تؤكد أن صنّاع القرار في هذه “الدولة”، يفكرون كسلطة، لا كـ”دولة”. ولأن سلطات الأمر الواقع الأخرى بسوريا، والتي تحتكر، بالقوة أيضاً، تمثيل مكونات سورية أخرى، كالأكراد أو الدروز، هم بدورهم، يفكرون كسلطات، يصبح الحديث عن إشارات إيجابية، يمكن البناء عليها، مفهوماً أيضاً. بمعنى، أننا نتحدث عن سلطات أمر واقع، كل منها تحتكر تمثيل مكوِّن، والحل للمعضلة الراهنة في سوريا، هو بإحلال التفاوض، كوسيلة لتوزيع المكاسب بين هذه “السلطات”، بدل الاقتتال المرتكز على شدّ كل سلطة للعصب الطائفي أو العِرقي للمكوِّن الذي تدعي تمثيله، ونتائج ذلك الكارثية على مجمل النسيج السوري.

وإن بدأنا بالإشارات المحبطة، والمتوقعة في آن، فأبرزها، اعتماد لازمة “الدولة”، في الحوار مع منتقدي السلطة في دمشق. فالحديث عن “شرعية ثورية”، أو “شرعية شعبية”، مُنحت عبر “مؤتمر النصر”، نهاية شهر كانون الثاني الفائت، يتعامى عن حقيقة أن من منح تفويض الحكم لأحمد الشرع، هي الفصائل المسلحة التي قاتلت معه في عملية ردع العدوان، وأسقطت نظام الأسد. أي، أن التفويض ناجم عن إرادة من استخدم القوة المسلحة، ليصبح بديل السلطة السابقة. ورغم أن تلك اللحظة، نُظر إليها في أوساط السوريين، على نطاق واسع، بأنها لحظة انتصار تاريخية، تعبّر عن إرادة الغالبية العظمى من السوريين، إلا أنها لا يجب أن تُعمينا عن أن من وصل إلى كرسي الحكم في دمشق، حقّق ذلك بالقوة المسلحة، لا بعملية انتخابية. وإن كنا نقرّ مع منظّري السلطة بصعوبة تنفيذ عملية انتخابية في الوقت الراهن، فإن ما تلا ذلك، من مؤتمر حوار وطني وإعلان دستوري، كشف عن نزوع جلّي لاحتكار السلطة من جانب من وصل إليها بالقوة المسلحة، مستنداً إلى استراتيجية شدّ عصب الأكثرية وراءه. وهو أسّ البلاء الذي أدى إلى ما رأيناه لاحقاً، خصوصاً في قضية السويداء.

في التعريف المبسّط للدولة، أنها عبارة عن ثلاثة مكونات: السلطة، الشعب، والأرض. والتفاعل الصحي بين هذه المكونات، هو ما يخلق دولة قوية، والعكس صحيح. هذا “العكس”، يظهر حينما تحتكر السلطة إرادة الشعب، وتمثيله، وتتعامل معه بفوقية، برزت بشكل واضح في تعبيرات مستشار الرئيس للشؤون الإعلامية، من قبيل “عقلية الدولة لا تفعل ذلك”، “استراتيجية الدولة لا تفعل ذلك”، “هذا شأن خاص بالدولة”، حتى أن محاوره علّق على منطقه بصورة موفقة، حينما قال له “هل تقصد أن الدولة فقط هي التي تفهم وسواها لا”. بطبيعة الحال، فإن حديث زيدان عن الدولة، ينطبق موضوعياً، على أحد مكوناتها فقط، وهي السلطة.

أما الإشارة المحبطة التالية، وهي متوقعة أيضاً، أن لا نيّة لدى السلطة في دمشق، لمراجعة المسار التأسيسي الذي وضعته هي بنفسها، للمرحلة الانتقالية، متمثلاً بمؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري، بل قررت، القفز إلى الأمام، بالحديث عن “مجلس شعب”، سيكون معبّراً عن إرادة “الشعب”. مجلس الشعب ذاته الذي سيُعيَّن ثلث أعضائه من الرئيس، بينما سيتم انتخاب الثلثين عبر لجان فرعية مختارة من جانب لجنة عيّنها الرئيس بنفسه. وهي آلية لن تؤدي إلا إلى نتيجة وحيدة، قالها محاور زيدان، في اللقاء الإعلامي، أن مجلس الشعب سيكون موالٍ للسلطة، فكان رد زيدان أنه سيكون موالٍ للدولة. وهنا نقع في الإشكالية نفسها المتعلقة بالخلط بين مفهومي “الدولة” و”السلطة”.

يضاف إلى ما سبق، ذاك المنطق “العائلي” الذي استخدمه زيدان لوصف تعقيدات العلاقة بين مكونات النسيج السوري. منطق يستند إلى عقلية “أبوية”، قائم على الوصاية على باقي أفراد “العائلة”، وفق منطق أن ممثل “الأكثرية”، هو “الأكبر”، أو “رب العائلة”، لا على عقلية “شراكة” حقيقية.

قد يقول قائل، في معرض كل الإشارات المحبطة الموضحة أعلاه، أية إشارات إيجابية كان يمكن التقاطها من حديث زيدان، للبناء عليها. هنا نجيب، أن أبرز تلك الإشارات الإيجابية، هو ما بدا، من حديث  زيدان، بوصفه إدراكاً من جانب صنّاع القرار في دمشق، أن ما حدث في السويداء، كان خطاً. وقد أقرّ زيدان بذلك. بطبيعة الحال، توصيف “الخطأ”، لجرائم وانتهاكات بحق مكوّن مجتمعي كامل، ليس التوصيف المأمول. لكن نكرر، أن البحث عن حل لمعضلات المشهد السوري يتطلب النظر لجميع الأفرقاء المتصارعين على أنهم سلطات أمر واقع، وأن كل طرف فيهم يحاول تعظيم منافعه، عبر استخدام شد العصب الطائفي أو العرقي للمكوّن الذي يمثله. الإقرار بخطأ ما حدث في السويداء، وإشارة زيدان الأخرى إلى أن هذا الخطأ لن يتكرر، بمعنى أن “الدولة”، لن تذهب إلى صدام مسلح مع فصائل السويداء، مجدداً، وستبحث عن حل لهذه المعضلة، بالطرق التفاوضية، هو الإشارة التي يمكن البناء عليها، حالما يكون الطرف الآخر، الذي يحتكر تمثيل الطائفة الدرزية الآن، جاهز للجلوس على طاولة المفاوضات، بعد الوصول إلى أقصى درجة ممكنة من التصعيد التعبوي. ونعتقد أن هذا التصعيد وصل إلى أقصاه بالفعل، في الدعوة غير الواقعية للانفصال. ليصبح التالي، سقوفاً أوطأ، مستندة إلى حصيلة التفاوض.

في حالتنا اليوم بسوريا، يجب النظر إلى المشهد بوصفه ساحة صراع، أفضل ما نأمله فيها، أن تَحل السياسة، كأداة للتنازع على المنافع، بدل الاقتتال. وهو أمر يحدث في كل البلدان التي تخرج من نزاعات أهلية، ويكون فيها أكثر من سلطة أمر واقع. ومع غياب القدرة على الحسم بالقوة، تنتفي القدرة على فرض مبدأ “الغَلَبة”، ويصبح من المتاح أكثر، الوصول إلى تسويات وسط، بين المتنازعين. تسويات قد لا تحقق الصورة المأمولة لسوريا التي نحلم بها، في مدى زمني قريب أو حتى متوسط، لكنها تمنع انحدارها إلى صورة أكثر بشاعة وكارثية مما هي عليه الآن. هذه التسويات، قد تؤسس على مدى زمني أبعد، أساساً لتعميم العمل السياسي التفاوضي كأساس للصراع على المنافع والمكاسب بين السوريين، كمقدمة للوصول إلى الدولة المأمولة.

 

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى